بشير بن شيخ يعرض برواق عسلة

قبسات من نور الطبيعة

قبسات من نور الطبيعة
  • القراءات: 912
مريم. ن مريم. ن

تمتدّ الطبيعة فاتحة ذراعيها لكلّ داخل إلى رواق «عسلة حسين» بالعاصمة، حيث يتنسم هناك الزائرون الهواء العليل ونسائم جبل جرجرة وعبق الأقحوان والياسمين، ويعيش مع الرعاة والفلاحين في الحقول، ومع السيدات في جني الزيتون وعند منابع الماء، ثم يرحل به المطاف إلى موانئ الصيد بالعاصمة وضواحيها، ثم إلى أرض العربان بالجنوب، فيكتشف أنه في جنة اسمها «الجزائر»، وهبها الخالق كلّ مسببات الجمال والراحة، وبالناس الطيبين المرتبطين بالأرض، وبالتقاليد التي جعلت من الحياة رمزا للسعادة والرضا والطيبة.

يجتهد الفنان بشير بن شيخ في معرضه الممتد إلى غاية 17 أكتوبر الجاري، في تصوير مناطق عدة من أرض الجزائر وبكل ما فيها من طبيعة ويوميات خاصة من منطقة الريف؛ حيث الحرية والصفاء والأصالة التي تربت بها الأجيال وتشبعت بهذا الجمال والهدوء الذي انعكس على الوجدان.

في كل لوحة تظهر حركة الحياة اليومية رغم بساطتها وعفويتها. ويحاول كل زائر أن يلمس اللوحة كي يظفر بنصيب من هذه الأجواء التي يفتقدها في زخم الحياة العصرية وفي ضوضاء المدينة. ويحرص الفنان على أن يقف عند «الطبيعة» بكل تجليات حسنها وإبداع وبصمة الله فيها، فتكون هي المادة الأولية عند الفنان بشير.

يستعمل الفنان الألوان الزيتية على القماش، ويختار الأسلوب «التصويري» الذي يراه أكثر تعبيرا لهذه الطبيعة الساحرة. وتبدأ الرحلة من بلاد القبائل الشاسعة؛ حيث الأنهار، ومنها نهر الصومام المتدفق والجبال والمراعي والغابات وكل حسن، ليظهر من هناك الراعي يسوق غنمه ويجتاز معها المنحدرات المغطاة بالاخضرار، وصولا إلى الوادي، وعند التمعن في هذا العمل يبدو وكأنه صورة فوتوغرافية تسجل بالضبط مسار المرعى.

في لوحة أخرى قريبة تلتحم زرقة السماء واخضرار الأرض في تكامل ساحر وعجيب، ولا يظهر الفرق جليا إلا عند التفاصيل الدقيقة، مما يُظهر شساعة  المنطقة التي تمتد إلى فضاء السماء. ومن أجمل اللوحات تلك التي يظهر فيها الفلاحون وهم يحصدون وكأنهم مزروعون في سهول من ذهب، والسنابل طوع مناجلهم، يخدمون الأرض وينالون رزقها.

أما بالنسبة للسيدات فذلك شأن آخر، إذ إنّ المرأة القبائلية في الأرياف والقرى لا تكلّ ولا تمل، وهي عمود البيت والحقل، فيصوّرها بشير في لوحات عند ينابيع الماء تحمل جرار المياه مع صديقاتها، وفي أخرى عند الوادي يغسلن الثياب والصوف، وتظهر أيضا منهمكة في الشؤون المنزلية، من ذلك عملية طحن القمح وسط الدار، والجلوس للعمل قرب المنسج، ناهيك عن العمل في الحقول وفي جني الزيتون وجلب الحطب، وكل هذه الأعمال الشاقة التي تعتبرها المرأة القبائلية عادية، لا تمنعها من الاستمتاع بالحياة، فترصد فترات من الاسترخاء والدردشة مع النسوة؛ في جلسات نسوية حميمية قرب الطبيعة وعند ينابيع الماء.

تحضر أيضا القرية ببلاد القبائل وكل ما يتعلق بخصوصيتها الهندسية من بيوت ذات الآجر، والأزقة الحجرية وبعض الأرصفة التي يجلس عليها الرجال في سمرهم خاصة الشيوخ منهم. وتظهر أيضا أوقات الغروب والصباح الباكر، حيث يخرج الرعاة والفلاحون أو المتسوقون إلى خارج القرية للعمل أو لقضاء حوائجهم ولا يعودون إلا مع الغروب. كما أبرز المعرض اللباس التقليدي القبائلي، حيث تفنن بشير في تزيين وزركشة الجبة والفوطة القبائلية بألوان زاهية، منها البرتقالي والأزرق والأبيض، وكذلك لباس الرجال خاصة البرنوس. كما قدّم بورتريه راقيا للقروي الذي تشبه تقاسيم وجهه خطوط أرضه وتضاريسها.

لم يكتف الفنان ببلاد القبائل، بل رصد أيضا بعض موانئ الصيد القديمة بالعاصمة وضواحيها، منها ميناء بوهارون وميناء جميلة بعين البنيان والأميرالية؛ حيث مجموعات الصيادين منهم الخارجون إلى عرض البحر بزوارقهم، ومنهم المنهمكون في حياكة الشباك. وقد أبدع الفنان في تصويرهم. كما أعطى روحا للقوارب والسفن. وفي إحدى اللوحات تبدو قرب رصيف الميناء؛ وكأنها صورة عائلية جماعية، وهنا طعّمها الفنان بألوانه الزاهية، وحرص دوما على أن تظهر الطبيعة من يابسة وبحر، في أجمل صورها بعيدا عن الغضب والثورة.

يمشي الفنان جنوبا ليصل إلى الصحراء، ويقف على أحوال العربان من أهلها. وتوحي اللوحات ببوسعادة؛ حيث النور والظلال والواحات والوديان الجارية وبساطة العيش ويوميات أخرى مع الناس البسطاء، منهم النساء اللواتي يملأن ضفة الوادي لغسل الثياب والسمر والانطلاق بالمزح لكسر روتين أشغال البيت.

عموما، فإن الفنان لم يكتف برسم الطبيعة الجامدة، بل أعطاها روحا، وطعّمها بيوميات الإنسان وبقيمه الاجتماعية والثقافية؛ مما أعطى قيمة للمعرض.

الفنان بشير بن شيخ من مواليد 1944 بصدوق ببجاية. درس الفنون الجميلة بالجزائر من سنة 1965 حتى 1970، وكان أول معرض له سنة 1967، ثم توالت معارضه بالجزائر وبالخارج.