الكاتبة شهيناز كرفاح لـ"المساء":

في "أوركسترا الموت" كل موت هو بداية لسرد جديد

في "أوركسترا الموت" كل موت هو بداية لسرد جديد
  • 189
حاورتها: لطيفة داريب حاورتها: لطيفة داريب

في "أوركسترا الموت" تخوض الكاتبة الجزائرية شهيناز كرفاح، مغامرة سردية جريئة، تمنح فيها الموتى صوتا، وتحوّل الصمت إلى لغة. وفي هذا الحوار تكشف كرفاح خبايا عالمها الفانتازي، المتكئ على واقع مثقل بالخسارات. وتتحدث عن رؤيتها للموت والحياة، وعن اختياراتها الفنية في صياغة هذا العمل المختلف. حاورتها "المساء".

❊ فكرة أن تتحدث "جثة" من داخل النعش، هي طرح غير مألوف في الأدب العربي. كيف وُلدت هذه الفكرة في ذهنك؟ وهل كانت الجثة رمزا للإنسان العربي، أم مجرد صوت للحياة بعد الصمت؟

❊ فكرة الكتاب ما هي سوى انعكاس لحالة نفسية في فترة معيّنة؛ نتيجة تأمُّلي لعالمنا هذا، وتساؤلي حول كيفية قدرة الإنسان أن يتجرد من إنسانيته، وكيف للحزن والأسى أن يقتل أجمل ما بالنفوس، فيصبح المرء ميتا على قيد الحياة. فخطر لي أن أُصغي إلى الموت نفسه، وأن أمنح الموتى حق الكلام؛ لعلّ صوتهم يكون أكثر صدقا منا. 

والجثة في "أوركسترا الموت" ليست رمزا ثابتا ولا جسدا هامدا وحسب، بل وعيا متقدا، يرى ما لا يراه الأحياء. إنها مرآة عاكسة للإنسان العربي الذي يعيش مقيّدا داخل قفص من الخيبات. إنسان لم يمت تماما لكنه لم يعد حيا كما ينبغي. وهي تمثل كيانا متحوّلا، يجمع بين الإنسان العربي بكل خيباته وانكساراته، وبين فكرة الوجود المعلّق بين الحياة والفناء. أعطيت الموتى حق الكلام؛ لأن الموت في صمته يحمل أحيانا حقيقة لا يجرؤ الأحياء على قولها. كما إنني عالجت العديد من المواضيع من خلال هذه الفكرة الفانتازية التي جُسدت في كتاب "أوركسترا الموت ".

❊ في "أوركسترا الموت" تتقاطع القضايا السياسية والاجتماعية مع الهَمّ الوجودي والفلسفي. كيف استطعت تحقيق هذا التوازن بين البعد الواقعي والبعد الرمزي؟ 

❊  في الحقيقة، لم أسع إلى تحقيق توازن محسوب بين هذين البعدين، بل تركت النص ينمو بطبيعته كما تنمو الفكرة حين تجد لغتها الخاصة. فالواقع العربي بكل تشظِّيه يفرض رمزيته من تلقاء نفسه. والسياسة في جوهرها ليست سوى انعكاس لفلسفة الإنسان في بحثه عن معنى الوجود. في "أوركسترا الموت" تماهى الواقعي بالرمزي؛ حتى أصبحا وجهين لعملة واحدة؛ فكل حدث واقعي يحمل في عمقه بعدا فلسفيا. وكل رمز في النص يستند إلى جذر من الحياة اليومية؛ ربما لأن العالم الذي نعيش فيه صار يفوق الخيال غرابة، فغدَت الرمزية هي اللغة الأكثر قدرة على فضح حقيقته.

❊ استخدمت قصيدة النثر الطويلة كقالب فني للعمل. لماذا اخترت هذا الشكل تحديدا؟ وهل تشعرين أنه الأنسب للتعبير عن رؤيتك للعالم، والموت، والحياة؟

❊ قصيدة النثر بالنسبة لي، ليست شكلا فقط، بل فضاء حرّا لا يعترف بالقيود. كنت بحاجة إلى شكل يتيح لي الانزلاق بين الشعر والسرد دون أن أخضع لقوالب جاهزة. وقصيدة النثر الطويلة منحتني هذا الاتساع، وهذه الحرية كما مكّنتني من بناء عالم كامل داخل الإيقاع الداخلي للغة. كما إن الحياة والموت لا يمكن اختزالهما في الوزن أو القافية، بل في الإحساس. وحاولت أن أكتب الحياة والموت بصفتهما حالتين شعوريتين لا نهايتين متقابلتين. وهذا الشكل هو الأقرب إلى نبضي الداخلي، وإلى فوضى الوجود التي أردت أن أترجمها.

❊ يطغى على العمل جو من الفانتازيا والرمزية، لكن القارئ يلمس أيضا واقعية مؤلمة. إلى أي مدى تستند هذه المشاهد إلى تجارب أو مشاهدات واقعية عشتِها أو تأثرت بها؟

❊ كل ما هو فانتازي في "أوركسترا الموت" يستمد جذوره من الواقع. ولا بد لأي نص أو عمل أدبي أن ينطلق من الواقع، ويستند على خلفية معرفية مسبقة. أنا لا أكتب عن الخيال، بل أكتب من خلاله. ربما لم أعش كل ما ورد في النص حرفيّا، لكنني عشته شعوريا عبر الآخرين، عبر الحروب التي أراها، والخذلان الذي نتنفسه، والصمت الذي يبتلع أصواتنا. والفانتازيا بالنسبة لي، ليست هروبا من الواقع، بل وسيلة لتفكيكه، وإعادة صياغته.

❊ العنوان "أوركسترا الموت" يحمل موسيقى خاصة، ويستفز القارئ من الوهلة الأولى. ماذا يعني لك هذا العنوان؟ وكيف يمكن أن نفهم العلاقة بين "الموت" و"الموسيقى" في نصك؟

❊ اخترت عنوان "أوركسترا الموت" ؛ لأنه يعكس الجوّ العام للكتاب، وروحه الرمزية. فالموت فيه ليس صمتا مطلقا، بل سيمفونية من الأحداث والمشاهد التي تعكس العبث المستمر في الحياة. الشخصية الرئيسية في كتابي عبارة عن جثة بداخل نعش، تتحول إلى قائد عرض أوركسترالي، تسرد لنا وقائع وأحداثا عديدة، فيصبح النص مشبعا بالعبثية، ويعطيه تلك المسحة السوداوية. وتعزف على إثره باقي الشخصيات أصواتا من الفقد، والألم، والتناقضات التي يختبرها الإنسان العربي في واقعه اليومي. كما تعطي الموسيقى النصَّ تلك النظرة السوداوية، والفلسفة العبثية والوجودية، التي جعلت من الموت والحياة وجهين لعملة واحدة. وبذلك يصبح الموت في الكتاب أكثر من مجرد نهاية، بل بداية لسرد جديد. 

كما جعلت من الفناء لحنا لحياة لا مرثية لها؛ فحيثما ينكسر الحزن تولد الموسيقى، وحيثما ينتهي الجسد يبدأ النص في الخلود. والكتابة هنا ليست ترفا، بل طقس نجاة من الفناء. "أوركسترا الموت" ، إذن، ليست مجرد عنوان، بل تجربة فنية وفكرية، تغمُر القارئ في لغة الموت والعبث معا. وفي الختام أتقدم بجزيل الشكر لطاقم جريدة "المساء" على هذا الحوار الشيق، وعلى تسليطهم الضوء على الأقلام الجزائرية الشابة، ودعمها.