مثقفون يتحدثون عن انعكاسات الحجر المنزلي على الإبداع

فنون البيت ثمرة وباء كورونا

فنون البيت ثمرة وباء كورونا
  • القراءات: 1715
دليلة مالك دليلة مالك

الأجواء التي فرضها وباء كورونا على العالم بلزوم الناس البيوت واتباع إجراءات الوقاية بانضباط شديد، خلقت في كثير من الحالات نماذج من الحيرة والقلق، لكن، من جهة ثانية، خلقت أمثلة في الإبداع الفني، يمكن أن نطلق عليه "فنون البيت"، كشكل من أشكال التحدي، خاصة أن النشاطات الثقافية والفنية في الجزائر متوقفة منذ إعلان الحجر المنزلي في شهر مارس المنصرم. ولهذا الشأن اتصلت "المساء" بمجموعة من المثقفين والأكاديميين للحديث عن المستجد من الفن في ظل هذه الظروف. 

تخصيص منصة مسرحية للأطفال في البيوت

تقول الأستاذة الباحثة والكاتبة المسرحية كنزة مباركي: "كنا نفرد أيدينا ملء الأمان، ونخرج محلقين إلى كل مكان. كان كل شيء في متناولنا، نشتري ما نشاء وقتما نشاء، نسافر ونذهب إلى المدارس والجامعات والمساجد ومقرات العمل، نتنزه في الحدائق العامة، ونتسوق ونركب وسائل النقل ونختلط بالآخرين. كنا نلتقي الأهل والأصدقاء وزملاء العمل في طمأنينة يوثقها عناق ومصافحة. نفعل كل ذلك من دون أن نفكر يوما في أن يتدحرج إيقاع الحياة عن سلم التقارب الاجتماعي إلى خوارزميات التقارب التكنولوجي والاندماج الرقمي". وتابعت: "الحياة في الخارج الآن تنفض جناحيها وتنتفض كعصفور مبلل، يلفظنا عنهما ليطير بسلام. وها نحن الآن نعيش اللحظة الفارقة، ونرجع إلى كهوفنا؛ تأسيا بأخينا إنسان العصور القديمة، نحاكيه ونفعل مثلما كان يفعل، ونكاد نصير مثله، نتواصل بالإشارات لولا فضل التكنولوجيا التي أهدتنا وسائطها التي تحمل أفكارنا ومشاعرنا وصورنا وأصواتنا وتفاصيل يومياتنا داخل الحجر المنزلي لمشاركتها مع الآخرين". وقالت أيضا: "هل تصدقين إن قلت لك إنني كثيرا ما فكرت فيما يحدث الآن؟ ليس على هذا النحو من التفاصيل ولكن على هذا النحو من الفكرة العامة والسياق العام.. حتى إن ما نقوم به الآن من سحب مفردات حياتنا في الخارج من عمل وفن ونشاط تجاري وفسحة ورياضة إلى بيوتنا بالاستعانة بالتقانة (التقنية)، ليس ابتكارا كورونيا مستجِدا، ولكنه رضوخ حتمي لفكرة التحول الرقمي التي كابر أصحاب الموقف الرافض لها وقالوا إنها لن تقضي على ورق استعمله الانسان وسيطا لحمل فكره باختراع الطباعة، فذهبوا إلى إدانة الكتاب والصحيفة الرقميين، وتهكموا على الاستعانة بالعالم الافتراضي في فنون العرض الحي كالمسرح مثلا، وتحدثوا بحماسة عن سلبيات الأنترنت، متجاهلين أن الإنسان هو من يختار سبل وأوجه توظيفها في حياته، وإلا ما كان هناك الكثير من الناجحين في حياتهم من وراء استخدامهم الجيد للأنترنت، هؤلاء يجدون اليوم في هذا الحجر أنفسهم في أمكنتهم الطبيعية، إنهم منسجمون مع الوضع بأريحية أكثر، خاصة والجميع الآن يزورون صفحاتهم ومنتجاتهم الرقمية فكرا وإبداعا وتجارة. وحتى المؤسسات التي فكرت في الحل الرقمي للترويج والتسويق لمنتجاتها وجدت نفسها اليوم أمام فرصة ذهبية، فيما تتخبط المؤسسات التي لم تستجب لاشتراطات التحول الرقمي، في وحل المحاولات الأولى". واسترسلت في حديثها: "على الصعيد الفني أشعر بارتياح إزاء لحاق الأدباء والفنانين والمؤسسات الثقافية والفنية بالمنصات الرقمية، وهو ما كنت أتمناه قبل كورونا، وقبل حدوث الأزمة. فالثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي والابتكار ولغة المستقبل، كلها تشغلني بحثا في إطار دراساتي العليا، وإبداعا من خلال كتابتي للمسرح، وبالأخص مسرح الطفل، الذي أراهن على منحه الشكل والمحتوى القادرين على جذب جمهور الأطفال، لا سيما أن هذا الجمهور اليوم يضم فئتين من (جيل ألفا)، وهما الفئتان (من 4 إلى 6 سنوات) و (7من إلى 9 سنوات)، وأطفال (جيل ألفا) هم أبناء التكنولوجيا، ومن العبث التحجج بفرضية خطرها عليهم، إنهم يمثلون الأطفال المولودين في عام 2011، والأطفال الذين سيولدون حتى سنة 2025، وهم المتعايشون مع التكنولوجيا بسلاسة، وسيكون مستقبلهم بها على نحو جيد، فهم يتقنون استخدامها، وليس من العدل إطلاقا وصفهم بمدمني التكنولوجيا حسب المختصين في علم النفس".

وبالعودة إلى فكرة ممارسة أشكال إبداعية جديدة في ظرف الحجر المنزلي والتأمل في هذه الممارسات الفنية التي تمارَس من البيوت على المنصات الرقمية، أكدت مباركي أنها تشعر بارتياح كبير؛ فممارسة الفن في البيت مألوفة جدا بالنسبة لها، وفكرة المسرح في البيت عبر النت بالتحديد، سبق أن جسدتها مع زوجها منذ سنة مع طفليهما، إذ خصصا له ركنا في البيت بشكل مسرح، وفكرت في تعميمها لتشمل عددا كبيرا من الأطفال، وهي الفكرة التي اقترحت تجسيدها على مدير المسرح الوطني السيد محمد يحياوي شهر ديسمبر الماضي، فرحب بها كثيرا، وفتح لها المجال لتقديم العمل وقتما شاءت لاهتمامه بالأمر، لكن عجلة الوقت التي ترتبت فيها جملة أشغالها والتزاماتها المختلفة، أبطأت عملية تقديمها العمل للمسرح الوطني. وأردفت: "وأنا الآن سعيدة بتجسيد الفكرة عموما في أكثر من بيت عبر مختلف دول العالم، أشعر بالرضا الداخلي وهذا يكفي".

الواقع الثقافي ينبئ بقادم مختلف

من جهتها، قالت الدكتورة والباحثة المسرحية ليلى بن عائشة إن الحجر الصحي على قساوته والخضوع القسري له، لا محال يفيء بفائض من الوقت، قد يستثمر من قبل المبدع والفنان بطريقة إيجابية، تمكنه من تجاوز الكائن إلى حدود الممكن، ولعل الفنان الحقيقي هو ذاك الذي سيتأمل الأمر بعمق ويغوص فيما سبق وما لحق، بل وسينظر إلى الوضع الذي تعيشه البشرية من زاوية مختلفة عن نظرة الإنسان العادي؛ ما يحذو به إلى النظر في علاقة الإنسان بذاته وبغيره، وإعادة هيكلة تفكيره بشأن بناء الإنسان الذي فقد إنسانيته في ظل طغيان المادة وهيمنتها بفرط الأنانية والنرجسية، ليفكر هذا المبدع في سبل جديدة ومغايرة للتعبير والبحث عن طرائق أخرى تحمل في سياقها ملامح الفن الجديد ما بعد كورونا أو يولد من رحم كورونا والحجر الصحي، فالمؤكد الذي لا يرقى إليه شك، أن انعكاسات هذا الوباء والحجر الصحي بوصفه تبعة من تبعاته موجودة لا محالة ومختلفة ومتفاوتة حسب طبيعة كل فن، قد تكون لحظية آنية باستيعاب المواقف والإبداع وفقها، وقد تتعداها إلى أبعد من ذلك.

وإذا تأملنا موقف المسرح الذي لن يشذ عن القاعدة فإننا حتما لا يمكن أن نغفل عن طبيعته الحية القائمة على التواصل الحي والمباشر بين صنّاع العرض والجمهور، هذا الاتصال الذي  قطعت كورونا حبال وصله، ومن ثمة ينبغي التفكير في سبل جديدة تستجيب استجابة لا مرحلية للوضع الراهن؛ بمعنى تتجاوز تبنّي الفكرة وسياق الحال بكتابة نصوص أو التفكير في إنتاج عروض استجابة للواقع المعيش، وإنما نقصد بذلك التفكير بجدية في خلق أشكال جديدة تكون مبتكرة في معناها ومبناها، أشكال قد تأخذ من هذا وذاك لتبني ذاتها وتستقل لها مقاييسها ومعاييرها الخاصة من حيث البناء.

وتعتقد بن عائشة أن الاستجابة للمستجد أمر وارد بكتابات ونصوص مسرحية تتناول إشكالات فلسفية ووجودية بالدرجة الأساسية، لها صلة بما حدث ويحدث في المسرح كما في الفنون الأخرى؛ فقد أثبت التاريخ أن الأوبئة والأزمات والحروب التي عرفتها البشرية في مراحل مختلف، أثمرت أعمالا فنية وروائع نادرة على غرار لوحة "الصرخة" و"خيانة الإنسان".. وروايات وقصص عالمية  "ديكاميرون" و"البؤساء"، ومسرحيات على غرار "الأم شجاعة"، ولكن الخلق الجديد في المسرح يحتاج حتما إلى تراكم واستيعاب وتمثل لعمق ما حدث، والتفكيك في طبيعة المسرح أو الأشكال المسرحية التي نريد، وتتجاوز ما هو كائن. وأضافت: "إذا انتفى التفكير العميق والوقت الكفيل بتخمر التجربة فإننا لن نخلق سوى أشكال ضحلة وهشة، يمكن أن تزول بزوال كورونا والدخول في حالة من الاجترار. وإذا كانت فنون السمعي البصري قد انتعشت ولاقت رواجا واسعا عبر مواقع التواصل الاجتماعي في هذه الفترة، فإن الفترة المقبلة قد تشهد تحولا كبيرا على مستوى المسرح، قد تغير معالمه لترسم له ملامح أخرى بناء على ما يعيشه الإنسان من تحول وانهيار على مستوى المفاهيم وتقويض للبنى وتفكيك للعلائق... كل هذا ينبئ بأن القادم مختلف لكن يحتاج إلى أن يستوي على نار هادئة، وذلك حتما يتطلب وقتا".

الحجر ليس نهاية حياة بل بداية شكل جديد لها

أما الروائي والكاتب المسرحي محمد الأمين بن ربيع فيرى أن الحجر في بداياته بدا أشبه بترقب مفاجأة من نوع ما في اللحظات الأخيرة، الجميع كان يعيش توترا وترقبا في انتظار خبر رفع الحجر وعودة الحياة إلى مسارها الاعتيادي، لكن لحظات الترقب تلك كانت في كل مرة تلد دقائقَ وساعاتٍ وأياما.. وطال الحجر. صعوبة الأمر تتعلق بتقبل الوضع بما هو توقف لنشاطات الإنسان الاعتيادية، التي ترسم ملامح هُويته وتحقق له فعل وجوده.

وقال بن ربيع: "فالكاتب، مثلا، يحقق وجوده من خلال الندوات والأماسي الأدبية والمناقشات وهو يعتلي مختلف المنابر الثقافية، غير أن الحجر بإجراءاته الاحترازية جمّد كل ذلك، وحرم الناس من ممارسة أنشطتهم، وحرم الكاتب من ارتياد منابره؛ فهل يمكن أن يكون الأمر قد توقف عند هذه النقطة؟ أيُعقل أن يرضى الإنسان بأن تتوقف حياته رهينة لإجراءات الحجر بدون محاولة لخلق فرصة للانعتاق منه؟ بالطبع لا، وهذا ما فعله كل شخص لا يرى في الحجر نهاية حياة بل بداية شكل جديد للحياة". وتابع: "لعل أهم تلك الأشكال القديمة بوجودها الجديدة في استغلالها، العالم الافتراضي. لقد غدقت مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية منابر بديلة لممارسة الأنشطة المختلفة، فصرنا نرى المقاهي الثقافية والندوات الفكرية والمناقشات الأدبية وحتى المهرجانات السينمائية وهي تُطلق من على المنصات الإلكترونية أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتحظى بإقبال جماهيري وتفاعل جيد لا يقلان عما هو موجود في واقع الناس، بل قد يصل الأمر ببعضها إلى أن تصبح بديلا لنظيرها الواقعي لما توفره من جهد ووقت، وغالبا ما سيكون للحجر آثاره على تغيير ذهنيات الناس في ما يتعلق بالفعل الثقافي وكونه فعلا يصرف المال العام في أشياء غير مستحقة، ونحن نرى مبادرات تطلَق بلا ميزانية، ومن البيوت لا تحتاج سوى هواتف ذكية". وختم الروائي: "الحجر أيضا سيصالح الناس مع أنفسهم ومع محيطهم القريب بعد أن وجدوا أنفسهم في حاجة إلى ذلك في غياب البديل، وبعد تقلص الفجوة التي كانت موجودة داخل البيت الواحد بين أفراده، ولذا لا نستغرب إذا قرأنا بعد الحجر أدبا، قد يصنَّف ضمن مسمى أدب البيوت، أو شاهدنا مسرحا يصنَّف ضمن مسمى مسرح العائلة، بعد أن رأينا الكثير من المبدعين يُقبلون على مثل هذه الأنشطة بعد أن وجدوا فيها متنفسا حقيقيا لأزمة الحجر".