صدور المجموعة القصصية ”وللزرقة دائما” لمرزاق بقطاش

عشر قصص عن الحياة بلونها الأزرق

عشر  قصص عن الحياة بلونها الأزرق
  • القراءات: 812
لطيفة داريب لطيفة داريب

للبحر مكانة نفيسة في حياة وأدب مرزاق بقطاش، والمجموعة القصصية ”وللزرقة دائما” التي صدرت له مؤخرا، دليل آخر على هذا الوله الذي نما في قلب بقطاش وترعرع فيه ولن يبارحه. في المقابل، تضم المجموعة عشر قصص، لم تتناول جميعها البحر، إلا أن الرابط بينها، زرقة قد تكون منبعثة من اليم أم من سماء، طلقت السحاب ورفضت أن يكون شريكا لها، وأفصحت عن لباس أزرق بهي أو من وجه آخر للحياة.

انطلقت رحلة الأديب والمترجم مرزاق بقطاش، من خلال مجموعته القصصية ”وللزرقة دائما” الصادرة عن دار نشر ”الأمل”، بقصة ”توكاتية” التي يقصد بها مقطوعة موسيقية، تحكي قصة مراد الذي يحضر جنازة صديقه المغتال، ويتساءل عن سبب موته بهذه الطريقة الشنيعة، صحيح أنه سارق وكان في العادة يسرق كل شيء، ظنا منه أنه يساعد أخاه الأكبر، رغم أن هذا الأخير كان يرفض أخذ هذه المسروقات، ولم يكن يهمه فقره، بل كان يريد أن يعيش كريما نزيها.

مراد تذكر المرة التي ذهب فيها مع صديقه السارق إلى كنيسة السيدة الإفريقية، وتركه هناك لوحده لأنه لم يكن يريد أن يشترك في سرقة تحفة من هذا الصرح الديني. كيف له أن ينسى ذلك اليوم الذي تزامن مع ”الانقلاب” الذي أحدثه الرئيس بومدين على الرئيس بن بلة.

مراد لم يفهم سبب قتل صديقه من طرف قوات الأمن وإلصاق تهمة سياسية به، فلم يكن على علاقة لا ببن بلة ولا بومدين، بل هو السارق الأميّ الذي كان يعشق سماع توكاتية باخ، دون أن يعلم هوية صاحبها، ولا يدرك شيئا من خبايا الموسيقى. نعم لقد تعرض السارق الذي لم يشأ بقطاش أن يمنحه اسما، للتعذيب، وغادر الحياة وهو في عز شبابه.

القصة الثانية تحمل عنوان ”زوربا الجزائري”، تناول فيها بقطاش قصة رجل مازال يعيش في ذكريات مشاركته في الحرب العالمية الثانية مع الألمان، وبالأخص حينما رفض أمرا من قائده حينما طلب منه قتل أسير يوناني، بل قال له ”لن أفعل، اقتله أنت”.

ذكريات صديقنا ما فتئ يذكرها، خاصة أمام شاب يسدي له خدمات تتمركز أكثر في كتابة رسائل للحصول على منحة، جراء كفاحه في صفوف القوات الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية. وها هو اليوم يعيش حياة بسيطة ويدير متجرا لبيع المواد الغذائية، لكن الذكريات تحوم فوقه، ولا يجد أي حرج في سردها لهذا الشاب المتعلم، خاصة بعد فقدانه لابنه وزوجته الثانية، لكن هل سيقرر إرسال شكوى للألمان بسبب عدم تلقيه منحته الشهرية؟ يجيب الشيخ؛ لا، سيصلي صلاة الاستخارة، وسيرى في الأمر. نعم فهو وإن كان لا يملك قوة زوربا، إلا أنه يملك قلبا صافيا والكثير من الإيمان.

القصة الثالثة ”سيزار وفيولات” قصة فنانة تشكيلية ترسم بوتريهات في باريس، تلتقي رجلا يطلب منها أن ترسمه، وتحت زخات المطر ينتقلان إلى مقهى ويتبادلان الحديث، فيقول لها إنها تستعمل كثيرا اللون البنفسجي، فليسميها ”فيولات”. أما هي فتعتقد أنه ثري فتسميه ”سيزار”، ومن ثمة يخبرها بأنه هنا من أجل رفع تحد يتعلق بنشر مخطوط له، ليفترق الرجل الجزائري والمرأة الفرنسية على أمل أن يلتقيا مجددا.

«الجلسة النهائية” عنوان القصة الرابعة للمجموعة التي تحكي قصة صديقين؛ الأوّل اسمه سعود عاشق للنباتات، يملك حديقة غناء، وعصافير ”الحساسين”، كما يحب الفن الأندلسي. عرف عن سعود ميله للعزلة، فلم يكن يصادق إلا أمقران الذي كان بدوره يعشق ”الحساسين” ويملك منها الكثير.

صداقة سعود بأمقران عميقة جدا، كيف لا وهما يعشقان نفس الأشياء، بل ويحسنان لغة الأزهار والعصافير، ويشعران بحزن حسون ما أو بفرحه من طريقة تغريدته، لكن لكل شيء نهاية، ونهاية هذه الصداقة؛ وفاة سعود بعد معاناته من المرض.

عودة إلى الموسيقى في القصة الخامسة التي عنونها ”هنا وهناك”، تحكي قصة موسيقار شاب من الجزائر، تعلّم الموسيقي والعزف على البيانو في فرنسا، بل أصبح بارعا فيها، ومن ثمة أراد تحقيق حلم يتمثّل في عزف ”توكاتية” لباخ، في صرح ديني، فكان تنصيب صديقه موريس في كنيسة بقرية فرنسية، فرصة للعزف هناك، ليرتدي برنوسه ويسافر إلى حيث صديقه، ويبدأ بالعزف على آلة ”أورغ” في الساعات الأولى من الصباح، فما كان من سكان القرية إلا التوجه بسرعة إلى الكنيسة ومعهم رئيس البلدية، الذي اصطحب معه أحمد من أجل استنطاقه. في الأخير، خرج أحمد منتصرا، بل تلقى الكثير من عبارات الشكر من طرف سكان القرية الذين استمتعوا بهذا العزف الرائع.

«لمحة عن ابتسامة”، يتطرق فيها بقطاش إلى البحر، وقصة صياد توفي بسكتة قلبية، جراء حزنه العميق والطويل على اغتيال ابنه، هو الذي لم يخش البحار وأهوالها، بل كان يقرأ أهواءها ويقرر امتطاء مركبه أو لا، لكن فقدانه لابنه قتله رويدا رويدا، رغم أنه حاول البحث عن أسباب هذا الفعل الشنيع، لكن لا حياة لمن تنادي.

«أوسكار يكتب رسالة حب”، القصة السادسة في المجموعة، عن شاب لقب بأوسكار رغم أن اسمه الحقيقي هو قدور. طلب من شاب متعلم أن يكتب له رسالة حب لأنه يريد الزواج من ابنة الجيران، لكن الموت كان أسرع، ولا أحد يدري إلى اللحظة، كيف مات هذا الشاب المختل قليلا. أما الشاب المتعلم، فتمنى لو أنه احتفظ ببعض الخربشات التي كتبها أوسكار لحبيبته، ليكتب قصة حب لن تنتهي حتما بالزواج السعيد، بل ستغرق في الحزن والمأساة.

قصة أخرى عن البحر، وهذه المرة مع قصة ”الحنون والقوي”، عن عسكري يحرس شاطئ ”الصابلات”، وفي الجهة الأخرى مجموعة من الأطفال يحاولون تخطي الحاجز، للعب بالكرة على مستوى هذا الشاطئ، فيتمكّنون من ذلك بموافقة من الحارس الذي ملّ تطبيق الأوامر وأدار ظهره عن المدينة، كأنه صفى حساباته معها وأصبح يقابل البحر.

كتب مرزاق بقطاش أيضا قصة ”الميناء، الحب والموت”، عن زوج يطل من نافذة البيت، ويرى باخرة روسية تصارع أمواج البحر، فتشعر الزوجة بالحزن وتفكّر في مصير راكبي السفينة وبالأخص عائلاتهم، أما الرجل فلا يفكّر في مصيرهم، بل في مرض والده الذي يقعد الفراش.

القصة الأخيرة في هذه المجموعة تحمل عنوان ”وللزرقة، دائما”، عدد فيها بقطاش، تدرجات اللون الأزرق الذي يعشقه، عن أزرق السماء الثابت في فصل الصيف، بينما نراه متقلبا في البحر، في حين أن أزرق الفنان التشكيلي كلود موني رائع فعلا.

هاهو شاب في هذه القصة يتوسد صخرا ويقابل البحر ويتسلى بكل ما يُربط باللون الأزرق. كما تأسف عن نفور الصخور من اللون الأزرق، أنها تحتضن العديد من الألوان، مثل الأخضر، لكنها تمقت اللون الأزرق، في حين يحب الشاب هذا اللون، والدليل تحمله آلام ظهره وهو يتوسد الصخور، مما سينتج عنه بقع زرقاء.

للإشارة، تضم المجموعة القصصية ”وللزرقة، دائما” عشر قصص باللغة الفرنسية، كتبها بقطاش بأسلوب سلس وقوي في آن واحد، كما اهتم بذكر تفاصيل الحياة اليومية لأشخاص قد نعتقد أنهم يعيشون حياة رتيبة، إلا أن كل واحد منهم يملك خزانا من الذكريات ومن الأحزان أيضا.

كتب مرزاق عن فقدان القريب وبالأخص الابن، وهو إحساس فظيع، فالوالدان يعتقدان أنهما سيموتان قبل أطفالهم، وسيموتان حزنا إذا حدث العكس، خاصة لو رحل الابن غدرا. اختار بقطاش أيضا طمس بعض أسماء أبطال قصته، ووضع أسماء مستعارة لأخرى، كأنه أراد أن يؤكد أن المصائب يمكن أن تمس أيا كان.

كتب بقطاش عن الالتحام بين الثقافتين الجزائرية والغربية، وعن الموسيقى الكلاسيكية والفن الأندلسي والفن التشكيلي. كما كتب أيضا عن البحر وسحره وعن الحب التعيس والسعيد أيضا. بدون أن ينسى لوعة فراق الصديق، ليختتم مجموعته بحبه للون الأزرق الذي يمثل كل ما هو جميل، بل إنه لون الحياة.