معرض "شاويات" للشنفرة برواق عسلة

صور من الأوراس الأشم

صور من الأوراس الأشم
  • القراءات: 3196
مريم. ن مريم. ن

تقدم ريشة الفنان سفيان داي تشاكيل من يوميات المرأة الأوراسية المعروفة بالصبر وبمواجهة قساوة الطبيعة وصعوبات الحياة، والمتسمة دوما بالأصالة التي لا تفرط فيها مهما بلغ بها التمدن.. عبر اللوحات، يكتشف الزائر جمال الأوراس الذي هو جزء من حياة هذه المرأة، وتأخذه الألوان والتفاصيل إلى أغوار التاريخ الضارب في القدم ليفهم الحكاية منذ البداية.

يحمل المعرض عنوان "شاويات: نساء الأوراس"، وتمتد فعالياته حتى الـ22 نوفمبر الجاري. ويحاول الفنان سفيان داي المعروف بالشنفرة أن يقدم تكريما لمنطقة الأوراس من خلال تكريم المرأة الشاوية، علما أنه ابن المنطقة وخريج مدرسة الفنون الجميلة بولاية باتنة.

يعتمد الفنان الأسلوب التصويري خاصة في البورتريهات التي أغلبها كانت لنساء شاويات لهن علاقة مباشرة بالطبيعة والبيئة الريفية.

تبدو اللوحات وكأنها صور فوتوغرافية من فرط الإتقان، منها لوحة هي عبارة عن بورتريه يجمع فتيات متفاوتات العمر يقفن وراء عجوز طاعنة في السن محفور على وجهها الوشم، والجميع يرتدي الزي التقليدي الملحفة وينظرن باتجاه واحد أي إلى المصور.

غير بعيد، تطل العجوز الراعية وهي تهش بعصاها على غنمها وسط المراعي الممتدة ويكاد يسمع ثغاء الماشية وسكون المكان مع طغيان الاخضرار الذي يعكس خصوبة الأرض بهذه المنطقة الفلاحية التي كانت عبر التاريخ مصدر رزق أبنائها الأوفياء الملتزمين بخدمتها والمحافظة على خيراتها.

تلتقي في لوحة أخرى النساء الراعيات حين العشية وهن يدخلن عبر مسالك القرية الحجرية ومعهن العلف والمواشي بعد يوم جهيد، وتظهر عليهن بعض الملامح القاسية التي هي نتاج الطبيعة.

ربط الفنان بين الحكمة والمرأة الأوراسية لذلك وقّع لوحة تظهر فيها عجوزا بوشمها ولباسها مغمضة العينين تجلس على الأرض في هدوء وهي تتأمل الملكوت ليبدو ما حولها فضاء صاف ومزهر يعكس صفاء نفسها وحبها لكل ما هو خير.

لم يخل المعرض من حضور الرجل الأوراسي الأشم وهو يرتدي لباسه التقليدي ويقف في شموخ، يمسك بين ذراعية ابنتيه الريفيتين المعتز بهما، كيف لا وهما من سلالة الكاهنة ورثتا الصبر والشجاعة رغم صغر سنهن، وتظهر في الصورة ملامح الاحتشام والتقدير للرجل خاصة إذا كان الأب.

في جلسة الشاي يبدو التواضع في أسمى تجلياته، وتستعرض الأصالة المنبعثة من رائحة الشاي التي يطلقها الإبريق النحاسي العتيق.. وتوضع الأكواب على الصينية الفضية لتجمع الأحباب والأقارب، علما أن كل الديكور كان ريفيا وهو ما يعكسه موقد الفحم، كما تظهر الأصالة عبر لوحات أخرى كلوحة الفانتازيا التي يتسابق فيها الفرسان في احتفالية تجمع أبناء القرى المجاورة.

يعود الفنان مجددا للمرأة الأوراسية التي رغم مظهرها الريفي الذي قد يبدو قاسيا أحيانا بفعل الطبيعة لكنها تعيش سعادة لا يقدرها غيرها لذلك تظهر شابة في إحدى اللوحات وهي تلعب مع أخيها كرة القدم على رجل مساواة لا مكان فيها لشيء اسمه رجل أوامرأة، وربما هذه العقلية هي التي جعلت من هذه المرأة تتحمل المسؤولية حتى في زمن الحرب.

حنين للذكريات الجميلة ولذلك الصبي ذو الطربوش الذي يحمل في حضنه خروفه الرضيع المدلّل ويداعبه في لطف.

توقف الفنان أيضا ليستعرض زينة هذه الأوراسية الحسناء فتظهر في هذه اللوحة بملحفة مزركشة بالألوان الصاخبة وكأنها تتأهب لحضور عرس، وفي تلك اللوحة، تمد يدها لتظهر للزائر حنة يدها وهي ترتدي الحلي الفضية التي تعتبرها جزء من أنوثتها، وفي أخرى تستعرض قوامها الرشيق وهي تسير كالحمامة متجهة للغدير حاملة الجرة، وقمة الجمال تمثله العروس الشاوية التي تحيط بها النساء العجائز وهن يوصلنها للبيت الزوجية ويحتفلن بها.. وهنا تتفاوت الألوان بتفاوت الملابس فلكل امرأة لون يناسب سنها.

قيم وروابط أخرى ولدت في هذه المنطقة الغالية من وطننا الحبيب تعكس مدى الحب للآخر وللحياة رغم بساطة العيش، الأمر الذي يتجسد في لوحات تبرز قهقهات بعض النساء وهن يشتغلن أو يتسامرن في أجواء طبيعية خلابة، كما يبرز اجتهاد هذه المرأة وتفانيها في خدمة الأسرة وذلك دون تذمر أو شكوى، كما يظهر في موعد الغسيل بالجدول، حيث تجتمع النسوة بعضهن يحملن معهن أبناءهن الرضع ثم يجلسن للغسيل وأخريات وبعد انتهاء العمل يحولن المهمة إلى تسلية فيقمن باللعب بالماء أوغسل أرجلهن أو غيرها.

لا يمكن الحديث عن الأوراسية دون الحديث عن الأمومة، هذه القيمة المبجلة للأم في الأسرة الشاوية، لذلك تفنن الرسام في تجسيدها مركزا على نبرة الإحساس أكثر منها من مجرد الصورة الجميلة التي تعودنا مشاهدتها عن الأم بحيث يكاد الحنان ينطق وهي تداعب صغيرها أو تضمه في حجرها لتهيئه للنوم، كذلك الحال وهي تحضر الحليب وتخضه وسط أبنائها الصغار كي تطعمهم تماما كما تطعم العصفورة صغارها.

أشغال أخرى تمارسها الشاوية من رعي ونسيج وخياطة.. وكلها بالوسائل التقليدية، الأمر الذي جعلها تتمسك أكثر بهذه الحياة وبتقاليدها التي رسختها في الأجيال عبر الزمن، وهو ما يلاحظ في لوحات لبنات صغيرات يحاولن ببراءة تقليد الأمهات في اللباس والعمل. ربط الفنان أيضا بين المرأة والطبيعة في تناغم تام وساحر، حيث لا تكاد تظهر الأوراسية إلا في بيئتها المكللة بالإخضرار والخيرات والحقول الممتدة، والتي تتشارك معها في الخصوبة والعطاء وقد وظف الشنفرة في ذلك العديد من الألوان وعلى رأسها الأحمر والرمادي والأزرق والأخضر والأصفر.

للإشارة، تظهر بعض اللوحات محاولات للبحث استوحى الفنان مواضيعها من لقطات سينمائية أو من صور فوتوغرافية. للتذكير، فإن داي سفيان المدعو "الشنفرة" قد حصل على الشهادة الوطنية في الفنون الجميلة، وشارك منذ 2010 في عدة معارض جماعية وتحصل سنة 2013 على الجائزة الأولى لملتقى المدارس الفنية بسيدي بلعباس، متبوعا سنة 2014 بالجائزة الأولى لمسابقة صالون البيض.