صاحب قدرة إبداعية كبيرة

صراط بومدين.. عملاق "الكوميديا السوداء"

صراط بومدين.. عملاق "الكوميديا السوداء"
الراحل صراط بومدين
  • القراءات: 493
ق. ث ق. ث

لا يزال الممثل الراحل صراط بومدين الذي يعتبر عملاق الكوميديا السوداء، يسكن قلوب الجزائريين بأعماله المسرحية والتلفزيونية والسينمائية، رغم مرور27 سنة من وفاته، حيث يبقى من نجوم الصف الأوّل في تاريخ الفن الجزائري، حسبما أكّده لوأج رفقاء دربه. قضى الفنان صراط بومدين الذي ولد في 1947 بوهران جلّ حياته فوق خشبة المسرح وأمام الشاشات ليصنع الفرجة من خلال إطلالته المميّزة كان لها الأثر الكبير على المشاهد الذي أحبّ أداءه الفني في شخصية "جلول الفهايمي" في رائعة "الأجواد" لعبد القادر علولة و"البلعوط" لبوعلام حجوطي وفي براعته في تقمّص شخصيات في "عايش بالهف" و"شعيب لخديم" وفي أفلام سينمائية نالت إعجاب عشاق الفن السابع.

لقد انجذب صراط بومدين الذي توفي في 20 أوت 1995 إلى المسرح صدفة، ليتم اكتشافه من طرف المسرحي الكبير ولد عبد الرحمان كاكي الذي أسند له أدوارا في أعمال منها "القراب والصالحين" و"ديوان ملاح" ومشاركته في مسرحيات "اللي كلا يخلص" و"البلعوط" لبوعلام حجوطي وفي روائع عبد القادر علولة وفي "صياد الملح" لبوزيان بن عاشور وغيرها، حسبما ذكره المخرج المسرحي غوتي عزري.

ذكاء، خبرة ومهنية

وقد شارك في أغلب الأعمال المسرحية التي أنتجها المسرح الجهوي لوهران، حيث أدى الفقيد الذي كان معروفا عند مقربيه باسم ديدن أدواره بذكاء وخبرة ومهنية في الطرح، وكان ناجحا في كلّ شخصية يتقمصها وماهرا في حفظ دوره ومتميّزا عن آخرين بفضل قدرته الإبداعية التي كانت خلاقة، ما جعله يفتكّ جائزة أحسن أداء رجالي في مهرجان قرطاج الدولي للمسرح (تونس) سنة 1986 أمام منافسه الممثل المصري الكبير عبد لله غيث الذي صعد إلى الخشبة ليهنئه، كما أضاف نفس المصدر.

ورغم أنّ صراط بومدين كان عصاميا ولم يكن له تكوين أكاديمي في المسرح، إلاّ أنّه كان ممثلا قديرا فوق الخشبة بفضل موهبته وإتقانه للعمل، حيث كان يبذل مجهودا كبيرا فوق الركح وكان لحضوره نكهة خاصة في الأداء الفني، ما جعله مختلفا عن باقي زملائه ويصنع الاستثناء في قواعد المسرح، حسب ما أكده مدير المسرح الجهوي عبد القادر علولة لوهران، مراد سنوسي.

من جهته، يرى المخرج المسرحي، بلفاضل سيدي محمد، بأنّ الفنان صراط بومدين الذي كان متواضعا جدا كان يحتك بجميع الفرق الهاوية الشابة ولم يكن ممثلا نمطيا وإنّما كان يجتهد في تصميم الشخصيات والتدقيق فيها قبل أدائها، سواء فوق الخشبة أو أمام الكاميرات. لقد كان في نفس مستوى المخرجين الذين تعامل معهم ... حقيقة ترفع القبعة لهذا الفنان الذي برع في الكوميديا السوداء حيث كان يستعمل كلّ عضلات الوجه لإبراز موقف أو حالة نفسية أو رسالة فنية في قالب فكاهي مع الاحتفاظ بجدية الموضوع. ورغم أنّ الفقيد شارك في أعمال مسرحية لمسرح القلعة بالجزائر العاصمة، غير أنّه كان يدعو إلى استمرارية المسرح العمومي وعدم السقوط في الأعمال الفنية التجارية التي تفقد بريقها الفني والجمالي وفق الأستاذ عيسى رأس الماء من قسم الفنون بجامعة وهران 1 "أحمد بن بلة".

علاقة وطيدة مع علولة

كما نسج أحد أبناء مدينة وهران اللامعين علاقة وطيدة وطويلة من التعاون مع هذا الفنان المتفرّد، ألا وهو عبد القادر علولة الذي أعطاه عديد الأدوار في أعمال هامة على غرار "العلق" و"الخبزة" و"حمام ربي" و"اللثام" و"التفاح" و"المايدة"، وكذلك في المسرحية الشهيرة "الأجواد"، وهو العمل المسرحي الذي أوصله في سنة 1986 إلى المشاركة في أيام قرطاج المسرحية بتونس، حيث فاز بجائزة أفضل ممثل.

واستمر هذا التعاون مع هذه الشخصية الفنية من مسرح "الحلقة"، ليلتحق صراط بومدين في سنة 1990 بتعاونية "أوّل ماي" التي انشأها عبد القادر علولة. ومع ظهور عديد التعاونيات المسرحية، انضم صراط بومدين كذلك في سنة 1992، إلى "مسرح القلعة" الشهير الذي كان يضمّ أسماء مسرحية لامعة مثل الراحلة صونيا (1953-2018) واسمها الحقيقي سكينة مكيو وعزّ الدين مجوبي (1945-1995)، وكذلك أمحمد بن قطاف (1939-2014). وفي نفس الفترة، استطاع الفنان أن يدخل بيوت الجزائريين، سيما مع سلسلة عايش بالهف وعمله الناجح المعروف لدى الجميع "شعيب لخديم"، الذي تمكّن من خلاله تقمّص عديد الشخصيات، كاشفا للمجتمع عيوبه ومحلّلا لظواهره ومظاهره وتطوّراته.

من الخشبة إلى الكاميرا

لا أحد ينكر نجاح الفنان القدير صراط بومدين أمام الشاشتين الصغيرة والكبيرة حيث كان المسلسلان "عايش بالهف" و"شعيب لخديم" تجربة مميزة أكسبته شهرة كبيرة وشعبية لدى جمهور التلفزيون، فكان هذان العملان تحفة فنية، ما جعلها تبقى راسخة في الذاكرة الفنية لجيل التسعينيات من القرن الماضي الذي كان يتهافت عليها ويعيد مشاهدتها أكثر من مرة من خلال اقتناء الأقراص المضغوطة.

أما الفن السابع (السينما)، فقد فتح للفنان أبوابه وأظهره لأوّل مرة على شاشاته، في سنة 1975 إلى جانب الفنانين اللامعين يحيى بن مبروك (1929-2004)، وحاج عبد الرحمن (1940-1981) في فيلم "المفتش الطاهر يسجّل الهدف"، قبل أن يمثّل في أعمال مثل "تحت الرماد" لعبد الكريم بابا عيسى و"حسن النية" الذي أخرجه الغوثي بن ددوش في نهاية سنوات الثمانينات، رفقة الفنان الكبير رويشد. كما تعاون مع بلقاسم حجاج في "الجار"، وعلى الرغم من مرضه إلاّ أنّه أبى إلا أن يشارك في آخر فيلم البورتري في سنة 1994، إلى جانب فتيحة بربار (1945-2015) وعمر قندوز (1950-2021) تحت اشراف المخرج حاج رحيم (1934-2017).

جلول الفهايمي.. عبقرية الأداء

في هذا الصدد، قال المخرج التلفزيوني محمد حويدق الذي أخرج "عايش بالهف" من إنتاج محطة التلفزيون لوهران 1992، إنّ هذا المسلسل نال شهرة شعبية كبيرة بفضل القدرات الفنية لصراط بومدين المعروف عنه خفة الروح وصاحب نكتة، حيث كان مبدعا في تقمّص عدّة شخصيات في الوقت نفسه وكان يتحرّك أمام الكاميرا بكلّ حرية.

كان العمل مع صراط بومدين الذي كان يضفي على العمل الفني لمسته الخاصة ممتعا، كما أضاف المخرج الذي أشار إلى أنّ الجزائر أنجبت عبقريتين في أداء عدّة شخصيات في مشهد واحد وهما "حسن الحسني" المعروف بـ"بوبقرة" وصراط بومدين ومن المستحيل أن نجد ممثلين في هذا المستوى، داعيا إلى عرض أعمال هذا الفنان متبوعة بالمناقشة حتى تستفيد منها الأجيال الصاعدة.

في نفس السياق، تقول الممثلة مليكة يوسف، التي اشتغلت معه في هذا المسلسل إنّه فنان لا يعوّض وظاهرة فنية لا تتكّرر.. هو "حالة خاصة" في عالم التمثيل ويعتبر من الصف الأوّل من النجوم الذين أبدعوا في التمثيل كونه خارق للعادة، حيث كان يستوعب النص بسرعة ويقرأ أبعاده ويدرس الشخصية التي يؤديها في العمق.."حقا استفدت الكثير من أدائه وإرشاداته التي كان يقدّمها لي من خلف الكاميرا، تشير المتحدّثة.

"شعيب لخديم".. بعيدا عن المجاملة

كما كانت تجربته في الأعمال التلفزيونية التي لها قالب السخرية البناءة منها شعيب لخديم للمخرج زكريا التي تتناوّل كلّ حلقة ظاهرة اجتماعية أنجح من أعماله المسرحية، حيث كان يرى صراط بومدين أن الصورة أبلغ من أيّ تعبير فني وكانت ملاحمه في الشاشة الصغيرة نفسها خارج التمثيل، فلم يكن متصنعا في الأداء، على حدّ تعبير الناقد السينمائي عيسى رأس الماء.

وكان الفنان الراحل يستعمل السكوت الفني في اللقطات التلفزيونية والسينمائية حيث كان عندما يؤدي دوره يسكت أكثر مما يتكلّم وبالتالي يرفض السيناريو الذي كان فيه كثير من الكلام ويعتبره حشوا ويحذف الكثير من الحوارات، ما جعله يتفوّق على العديد من الممثلين ويسرق الأضواء منهم في عالم التمثيل، كما أضاف الناقد. بتقمّصه لشخصيات جلول لفهايمي، الذي يعدو للبوح عن مخاوفه والتعبير عن سخطه، إلى شخصية شعيب لخديم، الذي يعكس من غير مجاملة أو مسايرة، صورة مجتمعه، يكون صراط بومدين الفنان العبقري، قد لمع في الشاشة وعلى خشبة المسرح، خلال مسيرة قصيرة لكن ثرية، تقاسمها مع جمهوره وكبار الوجوه المسرحية الجزائرية.

لقد كرّس صراط بومدين، حياته كاملة لخدمة الفن والتمثيل، حيث عبّر على ركح المسرح والشاشة عن رغبته الجامحة في تكثيف الأعمال الفنية وأن يتقمّص دائما شخصيات جديدة بغية تحليل مجتمعه في قالب  فكاهي، رفقة وجوه مسرحية بارزة في الفن الرابع الجزائري. وما فتئ صراط بومدين، رغم معاناته مع المرض، وحتى وفاته، يكرّم وينوّه برفيق دربه، عبد القادر علولة، الذي اغتيل في شهر مارس 1994، على أيادي الإرهاب، حيث أعاد في مناسبات عدّة تمثيل أعماله على خشبات المسرح، قبل أنّ يسلم الروح ذات 20 أوت من سنة 1995.