أسطورة لن تتكرر

صدور "إيدير الأزلي"

صدور "إيدير الأزلي"
  • القراءات: 744
نوال جاوت نوال جاوت

صدر عن منشورات "كوكو"، كتاب "إيدير الازلي" من تأليف الصحافيين اعمر وعلي وسعيد كاسد بعد شهرين من رحيل الفنان الأسطورة، حيث يتناول الحياة والمسار الفني لهذا المطرب الذي يعتبر سفير الأغنية الجزائرية باللغة الامازيغية والذي جالت أغانيه العالم وأعاد أداءها كبار المطربين داخل وخارج الوطن، ويطمح في ّ159 صفحة للإسهام في التعريف بمسار الفنان استنادا إلى شهادات أقربائه وأصدقائه إلى جانب مقالات صحفية ومقابلات اذاعية وتلفزيونية أجريت مع الفنان.

الكتاب قدّم له الروائي ياسمينة خضرة، مستعيدا لقاءه الأول مع إيدير في بداية السبعينات من القرن الماضي بمدرسة أشبال الثورة بالقليعة في إطار أداء الفنان للخدمة الوطنية، ولازال خضرة بعد 50 سنة من الزمن يحتفظ بذكريات مع الفنان من بينها تنظيم المدرسة لمسابقة في الغناء تحت إشراف إيدير، كما يحتفظ في ذكرياته عن المطرب صورة فنان متميز ورجل متواضع رغم قامته الفنية وكريم وكذا صديق.

وثائق قوية ومتينة

وفي تقديمه لهذا المؤلف، يعتبر عزوز حشلاف المطرب ورفيق درب ايدير أنّ الكتاب يستند إلى وثائق قوية أو متينة تبرز أهم عوامل نجاح الفنان الذي أوصل صوت الأجداد إلى العالم، وحاول مؤلفا هذه السيرة الذاتية التي كتبت بأسلوب صحفي التوقف مليا عند أهم المحطات التي ميزت عمله في طريقه نحو الشهرة والعالمية.

ويستعرض الكتاب سيرة الفنان بدءا من طفولته في قرية اث لحسن (تيزي وزو) ليصاحبه في باقي خطواته من مقاعد الدراسة الجامعية بالجزائر العاصمة، حيث درس علم الجيولوجيا في 1970 حاملا معه مواهبه الفنية التي بداها في المتوسطة حيث كان تداعب اصابعه اوتار الغيتارة ويعزف على المزمار.

ويواصل الكتاب الغوص في حياة الفنان الذي انتقل للعيش في العاصمة وكان والده يملك محلا لبيع التحف  التذكارية، وفي تلك الفترة ابدى إيدير اهتمامه بدروس اللغة الامازيغية التي كان يقدمها الكاتب والجامعي مولود معمري (1917-1989)، ويتطرق المؤلف ايضا لعلاقة إيدير بمسائل هامة مثل الهجرة وظروف حياة المهاجرين حيث غادر الجزائر في 1975، ويتحدّث أيضا عن نضاله من اجل قضايا عادلة وتشجيعه الشباب على الاهتمام بالتراث الموسيقي.

ومن بين المسائل التي ذكرها الكتاب وقوف الفنان إيدير الذي وصفه الكتاب بـ«المتواضع" و«الكريم" إلى جانب المغنين الشباب مثل عبد القادر مكسة والغازي، وأشار الكتاب أيضا إلى أفكار الفنان بخصوص عديد المسائل مثل الهوية واللغة الامازيغية والحياة السياسية وغيرها، كما تقترح هذه السيرة الذاتية للقارئ نصوصا مختارة لصاحب الاغنيتين المشهورتين "ابابا ينوبا" و«اسندو".

غنّى الأحلام الجميلة ونشر الروح النقية

عُرف الفنان الراحل إيدير بأغنية "أفافا إينوفا"؛ فمَن مِن العائلات القبائلية لا يحفظ أفرادها كلماتها عن ظهر قلب؟ وكم من الأصوات التي أعادتها لتبقى من أهدأ الأغاني الحالمة ذات الدلالات العميقة! إيدير برحيله خلق ألما في النفوس؛ فهو مرجعية غنائية في حد ذاتها، وفنان تنحني له الرؤوس احتراما، وصوت أبى الانسياق وراء الفن التجاري الربحي، فأعماله الخالدة تترجم هذه القناعة، والمستمع لها سواء كان يفهمها أو يحس بها، يتأكد أن العمل نتاج اشتغال عميق على الكلمة واللحن وحتى الأداء.

إيدير الذي تربت على صوته أجيال كاملة ونقلها الآباء لأبنائهم كزخم موسيقي فريد وحرصوا على تلقينهم كلمات أغانيه، ترجَّل لكنه سيبقى أيقونة الفن الملتزم، حامل الانشغال الأمازيغي الدائم، وصاحب المواقف الثابتة من قضايا شعبه ووطنه.

خبر وفاة إيدير تناقلته المواقع الإخبارية العالمية، التي أجمعت على أنه أيقونة الأغنية الأمازيغية العالمية بدون منازع، ومن أعذب الأصوات التي عاشت للموسيقى وبالموسيقى، وكان تلك البوتقة التي تجمع نغمات العالم وتزاوجها، لتمنح المستمع الحلم الجميل والنغم المتجدد، ملغيا الحدود المادية، فاسحا المجال للفضاء الرحب الحامل لكل ما يسرّ الخاطر ويطرب الأذن.

ومن الأغاني التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بمسار الفقيد "أسندو" و«أبابا إينوفا"، وهما أغنيتان لا يمكن تجاهلهما لارتباطهما بعمق المجتمع الأمازيغي وإبرازهما لعادات وجوانب من حياة البسطاء، حيث ولدت أغنية "أفافا إينوفا" في منتصف سبعينيات القرن الماضي، واضطر إيدير لأدائها في الإذاعة الجزائرية بسبب غياب الفنانة نورة التي كانت ستغنيها، فانتقلت به من مهندس في حقل بترول إلى نجم عالمي، حيث حققت نجاحا منقطع النظير وغير متوقَّع.

أغنية بسيطة النص واللحن تأخذ روحها من أصول الموسيقى الأمازيغية، لكنها، في نفس الوقت، متأثرة بموسيقى الفولك لفترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. تم تلحينها في أسلوب هدهدات الأطفال، وهنا يكمن سر نجاحها، لّحنها مغنيها إيدير، وكتب نصها محمد بن حمدوش.

أما طرافة قصتها فتكمن في أن إيدير لحنها للمغنية نورة، وهي من أولى الأسماء التي قدمت الأغنية القبائلية بنفَس تحديثي أوربي، لكن طارئا حال دون أدائها، وقام بذلك إيدير، ومرت بصوته على أثير الإذاعة الجزائرية. بعد هذا لم يتأخر النجاح، بل تحقق في وقت قياسي في الجزائر أولا، ثم تجاوز حدود المتوسط، ليصل إلى أوروبا لاحقا.

كانت "أفافا إينوفا" أول أغنية جزائرية تمر في الإذاعة الفرنسية، وسجل ذلك دخول أول أغنية من شمال إفريقيا إلى نوعية موسيقى العالم. وكتبت عنها الصحفية كاترين أمبو مقالا في صحيفة "لوموند" الفرنسية سنة 1978، فكسرت كل الحدود والحواجز والتحفظات.

تستلهم الأغنية كلماتها من قصة قديمة، تنقذ فيها فتاة والدها السجين في غابة يسكنها الوحوش والغول. وفي بعض مقاطعها هناك إشارة إلى السهرات الجميلة في جبال منطقة القبائل، وتركيز على قيمة وأهمية التراث الشفوي من حكايات وأشعار وأساطير وأغان، وكان لها صدى واسع في الكثير من بقاع العالم.

فإيدير الذي أحب فنه الكبير والصغير واحترم آراءه السياسية المتعصب والمعتدل، عرف كيف يدافع عن قضيته، ويلحّفها بالحكمة والاتزان محترما رأي الآخر، فخورا بأمازيغيته، متمسكا بجزائريته، ولم يشيّد لنفسه برجا عاجيا ولا قلعة زجاجية، ولكن فتح ذراعيه لكل التجارب الموسيقية والغنائية العالمية، ولم يحصر نفسه في طبع واحد، ولم يحد عن طريق الفن الجميل، فغنى الأحلام الجميلة، وكان نموذج البساطة ونقاء الروح.

إيدير غنى هويتنا وثقافتنا بألحانه الهادئة، وتقمص دور الحكواتي ليسرد علينا معالم ثقافتنا، فتساءلنا من هو "فافا إينوفا"، وكيف هو وحش الغابة، وجعلَنا نحس بقساوة الليالي الماطرة في القرى والمداشر الجبلية.

إيدير سافر بنا إلى النقاء بطبع هادئ خلوق، وحمل الحلم، وجسّده بكلم راق ولحن رائع.. رحل لكنه حفر في أرواحنا النقاء والطيبة، وفتح عوالم للسكينة بعيدا عن الابتذال والأغاني الهجينة بكلمتين ووزن واحد؛ فهو أسطورة لن تتكرر إنسانيا وفنيا.