زيارة إلى قصر "مصطفى باشا" بالقصبة السفلى

شاهد مثقل بالأحداث ومرصع بالكنوز

شاهد مثقل بالأحداث ومرصع بالكنوز
  • القراءات: 724
مريم.ن مريم.ن

يتحدى قصر "مصطفى باشا" الزمن، ويصر على أن يبقى شامخا مرفوع الجبين، يتولى الدفاع عن الذاكرة التي يحفظها في كل ركن  وسقف وفناء، تشهد كلها على ماض حافل بالأحداث، وأيام خوال عاشها الجزائريون وتركوا فيها مآثرهم.

شهد العهد العثماني بالجزائر، تشييد الكثير من هذه القصور، منها قصر "مصطفى باشا"، وكانت إقامات سكنية للأعيان وأماكن السلطة السياسية. شيد القصر في القصبة السفلى، بالقرب من البحر، تجاوره قصور أخرى ومساجد شهيرة، كمسجد كتشاوة وبتشين والمسجد الكبير للجزائر. بني قصر الداي "مصطفى باشا" عام 1798م، وأعطى أمر تشييده بهندسة رائعة، واستطاع الصمود لأكثر من قرنين من الزمن، حولته السلطات الاستعمارية إلى غاية 1948، إلى مكتبة، وكانت أول مكتبة فرنسية بالجزائر، قبل أن يصبح بموجب مرسوم وزاري بتاريخ 7 نوفمبر 2007، مقرا لمتحف الزخرفة والمنمنمات وفنون الخط.

زارت "المساء" مؤخرا، القصر، والتقت المديرة السيدة هجيرة نجاة ركاب، التي تتولى هذا المنصب منذ 9 أشهر (نوفمبر الماضي)، وهي مختصة في علم الأثار (ماستر 2) تخصص الحفظ الوقائي من جامعة السربون، عملت 25 سنة بالمتحف الوطني بالباردو، كرئيسة مخبر الحفظ الوقائي والصيانة والترميم، وكانت، حسبه، تجربة ثرية، وتقول "أصبحت مسيرة لهذا المعلم التاريخي، وأتعامل مع عمال وموظفين، لكن حبي لاختصاصي يبقى راسخا، ولا أتخلى عنه، لذلك أمارسه ولو بطريقة غير مباشرة يوميا"، كما أنها لا تكف عن الاستماع للعاملين معها، وتأخذ في الحسبان اقتراحاتهم، وتعطي مكانة مهمة للنشاطات الثقافية والعلمية والترفيهية.

أشارت السيدة ركاب، إلى أن مسارها الطويل في مجال الصيانة والحفظ، جعلها تلتزم دوما بإعطاء التوجيهات للعمال، من أجل المحافظة على هذا المعلم، الذي هو جزء مهم من القصبة العتيقة، يجب المحافظة عليه وعلى محتوياته، منها اللوحات الثمينة ونقوش الخط العربي والزخرفة. من الأمور التي قالت السيدة ركاب، إنها تحرص عليها؛ التواصل الدائم مع الجمعيات المحلية وجمعيات الأحياء المختصة بترقية التراث والسياحة، لذلك كانت تقترح مثلا، على الجمعيات التي تأتي بالزوار سواء الجزائريين أو الأجانب إلى القصر، الدخول بالمجان والتكفل قبلها بتنظيف "الزنيقات" المؤدية إلى القصر، من النفايات وغيرها من الأمور التي تشوه المنظر العام المحيط بهذا المعلم، وهي مبادرة أيضا تدخل في إطار الترويج للسياحة.

من التوجيهات التي تقدمها المديرة؛ تلك المتعلقة بالتنظيف، حيث قالت "قمت بتوعية المشرفة على التنظيف بالقصر، لتلتزم بالشروط، وكان ذلك، كعدم استعمال مواد التنظيف الكيميائية بإفراط، وحتى الماء والصابون لا بد أن يكون بعناية، كي لا تتضرر رسومات البلاط والجدران، كما دعت أعوان الحراسة والأمن بالقصر، إلى تخصيص مكان في الاستقبال، خاص بأغراض الزائرين كي لا ينقلوها إلى القاعات، ناهيك عن الأطعمة وكؤوس القهوة والشاي، ومنع الاتكاء على الأعمدة، وكذا منع المكوث لفترات طويلة في القاعات أو أمام المعروضات، كي لا تتضرر، فالرطوبة الناتجة حتى من تنفس الزائر تصيب المحتويات بنوع من التلف، لتبقى عملية التحسيس أمرا هاما، حيث تؤكد السيدة ركاب، أنها تتابع هذا الأمر من باب تخصصها.

وأكدت محدثة "المساء"، أن بالقصر ما يفوق 140 ألف بلاطة لا تتشابه فيما بينها، وهو ما يجلب الملاحظة والتدقيق من الزوار، وهي بالفعل متعة، موضحة أن لكل قاعة موضوعها، منها الخاصة بالخط أو المنمنمات والزخرفة، وأضافت أنها منشغلة ببرمجة بعض النشاطات الثقافية والترفيهية، منها ورشات للصغار خاصة بالكتابة والزخرفة على السيراميك، سيتم بث تفاصيلها على الفيسبوك لاحقا، وهنا تلتفت إلى أبناء القصبة الذين هم بحاجة لملء الفراغ والاستفادة من هذه النشاطات.

كما أعلنت المديرة عن تنظيم ملتقى دولي، سيكون في نوفمبر أو ديسمبر المقبل، على أقصى تقدير، خاص بـ"التجارب المهنية في إطار الحفظ والصيانة"، وقبلها، أي في أكتوبر، ستنطلق معارض فنية، علما أن المعارض في القصر غالبا ما يمكث الواحد منها قرابة الشهر. أما فيما يتعلق ببرنامج الصيف الخاص بالكبار، فستعطى الأولوية للحرفيين والصناع كفرصة لعرض وبيع إبداعاتهم.

في الطريق إلى القصر

سارت "المساء" نحو  قصر "مصطفى باشا"، الذي يبعد ببضعة أمتار فقط عن جامع "كتشاوة"، لتدخل بعدها في زقاق ضيق، يكثر فيه المارة القادمون أو المتجون نحو القصبة العليا، وما يلاحظ بعض أكياس النفايات المرمية هنا وهناك في اتجاه مدخل القصر، فرغم حرص أعوان القصر على التنظيف ورفع بعض هذه الأكياس، لكن النفايات تبقى سيدة في هذا المكان. يبدأ القصر من الباب الخشبي الكبير المنقوش برسومات إسلامية، به مطرقتان علويتان وأخرى سفلية، ثم يتم الولوج إلى السقيفة بجدرانها المزخرفة بأنواع رائعة من الرخام الخالص، وبلاط مزركش بأشكال هندسية متنوعة، تصول فيها تيارات من الهواء العليل، رغم حرارة ذلك اليوم، وغالبا ما يجد الزائر نوعا من الراحة، حيث يأخذ أنفاسه ليشرع في الزيارة.

هناك قاعة الاجتماعات لديوان الوزراء وخطبة الداي، مزخرفة بأشكال ورسومات مختلفة تعود للقرن 18، وتسود في كل مكان قطع البلاط التي يفوق عددها ما يوجد في قصور أخرى، إضافة إلى أعمدة من السيراميك.

في القصر ثلاثة طوابق، وطابق أرضي خصص لضيوف الداي، أما الطابق الأول للداي وعائلته، والثاني للأقارب، أما الطابق الثالث والأخير فخصص للخدم والعاملات بالقصر.

أبواب القصر المصنوعة كلها من الخشب الخالص، نقشت باحترافية، و يوجد بالقصر أنواع من الرخام المصنوع من معدن الكرار الإيطالي، على شكل أعمدة تشكل مربعا يحيط بفناء القصر حتى طابقه الثالث، وهي أعمدة رخامية منقوشة على شكل يسمح للنباتات بالنمو والصعود، متبعة العمود الرخامي، وبأعلى العمود، أشكال هندسية ذات دلالة، منها الهلال التركي وزهرة القرنفل، وهي شعار الجزائر العاصمة، وتتوسط الفناء الداخلي؛ نافورة تكسوها قطع من الرخام الأبيض المنقوش، وضعت بها أنواع مختلفة من الأسماك وزينت بالنباتات، ومن مميزات القصر أيضا، أن جميع أبوابه كبيرة مصنوعة من الحطب، بها باب صغير يسمى خوخة، يفتح دائما في فصل الصيف.

أدرج هذا الصرح ضمن المعالم التاريخية سنة 1887، ليصنف وطنيا ضمن جملة معالم القصبة سنة 1991، ويتم ضمه إلى سجل التراث العالمي من طرف "اليونيسكو" سنة 1992، وفي محاولة للحفاظ عليه من النسيان والزوال، حولت الجزائر القصر إلى متحف وطني للزخرفة والمنمنمات وفن الخط عام 2007، في إطار الاستثمار الثقافي لمنطقة القَصبة.