ضريح ماسينيسا

شاهد صامت على ملحمة موحّد نوميديا

شاهد صامت على ملحمة موحّد نوميديا �
  • القراءات: 1925
ق.ث� ق.ث

 لايزال ضريح الملك الأمازيغي ماسينيسا الذي يشكّل مصدر فضول حقيقي ويثير اهتماما كبيرا بسبب هندسته المعمارية المميزة، الشاهد الصامت على ملحمة موحّد نوميديا. وقد أعيدت تهيئة المحيط المباشر لهذا الضريح القابع فوق هضبة بالقرب من الخروب (16 كلم شرق قسنطينة) بشكل كلي؛ تحسبا لتظاهرة «قسنطينة عاصمة للثقافة العربية». 

يتحدى الضريح المتواجد عند نقطة تقاطع الطرق التي كانت تربط بين كل من سيرتا عاصمة نوميديا وتيفيست (تبسة) وكالاما (قالمة) وسيتيفيس (سطيف)، الزمن منذ 1800 سنة. ويواصل ضريح ماسينيسا الذي شُيّد من أجل تخليد ذلك المحارب الشجاع والحاكم الشغوف بالفنون والأدب، الحفاظ على ذكرى قصة نهاية خبير في الجيش، عمل طوال فترة حكمه على تطوير حضارة أمازيغية مستقلة. 

 

فضول معماري

بمقارنته بقبر إمدغاسن - وهو أقدم ضريح نوميدي بإفريقيا الشمالية متواجد بولاية باتنة - أو بالقبر التذكاري للملك سيفاكس بالمدينة النوميدية العتيقة سيقا بولاية عين تيموشنت، اللذين هما على شكل قاعدة أسطوانية محاطة بسقف مخروطي الشكل من الأحجار والأعمدة المزخرفة، يلاحَظ بأنّ قبر ماسينيسا يختلف في كونه مشيّدا بالأحجار المصقولة، وذا شكل مكعب في قاعدته مع درعين (2) يرمزان لرتبة الملك الأمازيغي. 

واستنادا إلى وثيقة من المتحف الوطني سيرتا، تشير عملية الاستكشاف التي قام بها أخصائيون في الآثار وباحثون فرنسيون في الفترة الممتدة بين 1915 و 1916، إلى احتمال أن تكون حجارة الضريح من الطراز المختلط إغريقي - بونيقي التي تمّ جلبها إلى سيرتا من طرف عمال إغريق وقرطاجنيين كان يشغّلهم الملوك النوميديون، لاسيما ماسينيسا وابنه البكر ميسيسبا (القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد). 

وكشفت أولى الحفريات أنّ ضريح ماسينيسا يحتوي على قبو بمترين (2 م) على متر واحد (1 م) موجّه من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، وعلى عمق 1,12 متر، كان هذا القبو الذي تمّ تشييده فوق قاعدة الأساسات، مغطى ببلاطات بسمك 40 سم، ومؤطّرا بالأحجار المصقولة، ولم يكن العمق مبلّطا سوى من الزاوية الشمالية - الغربية. 

ولم يكن للقبو الذي تتواجد به رفات الملك النوميدي ماسينيسا الذي حكم خلال 60 سنة، أيّ اتّصال بالعالم الخارجي، مما اضطر علماء الآثار الفرنسيين خلال تلك الفترة، لتفكيكه من أجل الوصول إليه؛ حيث كانت الحجرة تضم عظاما إضافة إلى 3 جرارات سليمة وحطام جرار آخر وكذا أشياء أخرى مؤكسدة وعلى شكل قطع، من بينها خوذة وقميص ورماح.  

ولم يتمكّن الجزء العلوي من القبر الذي يتكوّن من أعمدة وأسطوانات أعمدة وتيجان أعمدة، من مقاومة قساوة الزمن؛ حيث من المزمع إعادة بنائه. 

 

ماسينيسا «سيد المدن»

وتمكّن ماسينيسا ابن قاية المناور العسكري الماهر والديبلوماسي، تغيير مجرى التاريخ عندما تنازعت روما وقرطاج على التحكّم في العالم، حسبما يؤكّد مؤرّخون. ولكونه محاربا مقداما تمكّن الملك الأمازيغي من استعادة مملكته، وفي ظرف زمن قصير احتل 70 مدينة، وحصّن ووحّد أيضا الجزء الأكبر من إفريقيا الشمالية في دولة منظمة وذات سيادة. 

وخلال حوالي 60 عاما، وهي فترة حكم ماسينيسا، عمل ذلك الملك على توطين الأمازيغ من خلال تطوير الفلاحة لديهم؛ مما جعلهم يتعلّقون بالأرض ويتشبّثون بها، كما طوّر التبادلات التجارية عبر جميع دول حوض البحر الأبيض المتوسط؛ حيث أضحت نوميديا قوة تجارية من الطراز الأوّل، يحميها أسطول حربي مثير للإعجاب ومحصن، حسبما تذكره وثائق تاريخية. 

كما أضحت العملة التي نُحتت عليها صورة ماسينيسا، متداوَلة عبر كامل حوض البحر الأبيض المتوسط. وباعتباره حاكما ينحدر من سلالة مرموقة من الملوك، شجّع - حسب المؤرخين - الأدب والفنون، واستقبل بقصره بسيرتا العديد من الكتّاب والفنانين الأجانب، ودعّم جميع أشكال الإبداع.  

ويذكر التاريخ على وجه الخصوص، أنه في سياق طموحه الكبير، قاد ذلك المحارب القوي ماسينيسا وهو في سن 88، جيشه في معركة كبرى ضدّ القرطاجنيين. ويُعدّ ماسينيسا «الأعظم بين أكبر الحكام الأمازيغ». وتشكّل إعادة بناء قبره وتسليط الضوء على حكمه، واجبا للذاكرة، كما تمثل إعادة بناء جزء من الذاكرة الجماعية.