ندوة "الشعر الشعبي ودوره في تطوير الأغنية الجزائرية"

سلطة الأغنية التي صنعت وجدان الجزائريين ووعيهم

سلطة الأغنية التي صنعت وجدان الجزائريين ووعيهم
  • القراءات: 810
مريم . ن مريم . ن

نظمت الجمعية الجزائرية للأدب الشعبي، أول أمس، بالمكتبة الوطنية، ندوة بعنوان "الشعر الشعبي ودوره في تطوير الأغنية الجزائرية"، قدم فيها الباحث مهدي براشد، عرضا لمسار الأغنية الجزائرية التي ارتبطت بالذائقة الاجتماعية (الذوق)، معبرة عن الجزائري بكل أحاسيسه وانشغالاته، ضمن سياقات تاريخية وسياسية وثقافية متعددة وممتدة لأزمنة مختلفة، بقي فيها الجميل جميلا وذهب الغثاء إلى النسيان.

أكد الأستاذ توفيق ومان، رئيس الجمعية الجزائرية للأدب الشعبي، أن هذه الندوة مهمة، لأنها تمهيد للملتقى العربي لكتاب الكلمات الذي ستحتضنه الجزائر شهر نوفمبر 2023، بحضور كبار الشعراء الغنائيين العرب من تونس (منها الجليدي العويني)، ومن ليبيا مع سالم العالم الذي هو اليوم في أوج عطائه، كما تحضر دول أخرى، منها الأردن والعراق ومصر وغيرها، موضحا أن كل هذه اللقاءات والندوات والقعدات، ما هي إلا توجيه للكتاب، كي يقدموا الأفضل بعيدا عن السوقية والابتذال، مرحبا بالأستاذ براشد المختص في هذا المجال، والذي له اطلاع على مسار الأغنية الجزائرية، وله العديد من الإصدارات التي تساهم في تنوير البحث في مجال الشعر الشعبي، وله معجم "العامية الدزيرية" والكثير من المخطوطات التي تنتظر النشر.

تحدث الأستاذ براشد عن أمرين في الشعر الشعبي، أولهما مسألة الشعر الشعبي، وهل هو أمر محسوم، بمعنى من هو الشاعر الشعبي، والثاني متعلق بمسألة الحكم القيمي، أي بالقاموس المحدد لما هو بذيء وساقط ومبتذل، فهذا الأمر غير محسوم أيضا، فما هو بذيء عن أحدهم قد يكون غير ذلك عند آخر، أو ما قد يكون مبتذلا في هذا المقام قد يكون غير ذلك في مقام آخر، كما أن الأحكام القيمية تخضع لمنظومة قيم غير ثابتة تتطور وتختلف عبر الزمن. قال المحاضر، إن الأغنية منذ أن كانت، ارتبط وجودها بالممارسات الشعبية والمجتمعات وطقوسها، وهنا أشار إلى أنه في بعض الأحيان، نجد شعرا مكتوبا بالفصحى، ومع ذلك يكون شعرا شعبيا وكان غناء شعبيا، وفي أخرى، هناك قصائد كتبت بالعامية الدارجة، ومع ذلك ليست كلمات شعبية ولا أغنية شعبية (أي ليست فنا شعبيا منتشرا بين عموم الشعب يتغنى بها ويحفظها) والسبب، حسب المتحدث، مدى اقتراب هذه الأغنية أو ابتعادها عن الرسميات، بينما الأغنية الشعبية والشعر الشعبي، هي هذه المدونة التي تعبر عن هموم وآمال ومشاغل الشعوب في الهامش أكثر ما تعبر عن خطاب رسمي جاهز. أعطى المحاضر مثالا عن كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني في القرن الرابع الهجري، حيث اختار صاحبه عددا من القصائد التي غنت، ولأن الجهة الرسمية (المؤسسة السياسية والدينية والاجتماعية) حينها لم ترض عن الكتاب، فقد نعتته بكل النعوت، لكنه بقي علامة عبر التاريخ لقيمته.

بالنسبة للغناء في الجزائر، فقد قسمه المحاضر إلى قسمين، الأول يتمثل في ما تعلق بالموسيقى الحضرية وما فيها من آلات وترية خاصة في الموسيقى الأندلسية، ثم الموسيقى البدوية وتعتمد على الإيقاع والآلات النفخية، من ناي وبندير، وتنتشر في الغرب الجزائري، الهضاب العليا والصحراء. صنعت الغناء الجزائري، القصائد والكلمات التي نظمت بالدارجة، لاعتبارات تاريخية واجتماعية، علما أن الشعر العربي الفصيح تراجع مع الحكم التركي للجزائر، لأنه لم يكن يهتم بالفنون ذات اللسان العربي في كل العالم الإسلامي، مما أدى إلى ما يعرف بعصر الضعف، ومع ذلك، استطاع المغرب العربي أن ينجو من هذا الضعف بشعر الملحون، ليتطور في المناطق التي بها الوجود التركي قليل، أو أتى متأخرا، لذلك فإن العاصمة التي كان بها الأتراك بقوة، عدد شعرائها قليلون، منهم الكبابطي وقدور بن اسماعيل، عكس الغرب أو الجنوب الجزائري، وفي فترة الاستعمار، حرم الجزائريون من التعليم العربي وأغلقت المدارس، فأصبحت المؤسسة الثقافية الوحيدة هي الزوايا، ثم ظهرت المقاهي التي كانت بمثابة النوادي، ليتحول الشعر من مدونة تؤدى في الزوايا خلال المناسبات الدينية، إلى المقاهي، حيث الحفلات، وهو نوع من المقاومة الثقافية.

بعد الاستقلال، ارتبط "الريبيرتوار" الجزائري بأغان أصلها قصائد شهيرة، ليغني عبابسة ودرياسة ورضا دوماز "حيزية" لبن قيطون، ويغني الفرقاني والعنقى "صالح باي" الشهيرة، ويغني البارا اعمر "راس المحنة" لسيدي بن خلوف، ويغني الفرقاني أيضا "البوغي" لقاب الله، ثم "السرجم" مع "أنا في حماك"، التي غناها العنقى والغافور لقدور بن عاشور، وكذلك "الوشام" لبن مسايب مع الشيخ حمادة واعمر الزاهي، بالتالي هذه المدونة الشعرية حولت مؤدييها لأيقونات، حتى يومنا هذا لم تنطفئ شهرتهم. بالنسبة لأغنية الراي، لم ير فيها براشد الابتذال على طول الخط، بل أدت روائع القصائد، منها "بي ذاق المور" و"بختة"، والسلطة هي من فرضت هذا النوع من الموسيقى في يوم ما، وهي من دافعت عن تصنيفه في "اليونسكو"، علما أن كل مدوتها الشعرية من التراث تقريبا.

كما أن الفصيح موجود في الموسيقى الأندلسية، منها الانقلابات والانصرافات، رغم أنها في فترة من الفترات، لم تكن موسيقى الشعب، بل كان ينظر لها على أنها فن الطبقة البورجوازية، هناك أيضا الفصيح المرتبط بالأغاني الوطنية والأناشيد، ونالت الشهرة في الثورة وبعد الاستقلال، عكس أغاني "البروباغندا" (الدعاية)، ذكر منها المحاضر مثلا؛ أغنية "خذ المفتاح يا خويا" لدرياسة وارتبطت بفترة ما، وبخطاب سياسي عكس الأغاني الوطنية الملتزمة، كما تحققت في فترة من الفترات ظاهرة فنية رائعة مع محبوباتي، الذي التقى فيه الشعر والموسيقى ليرافق الأغنية الجزائرية لأكثر من 40 عاما في كل الطبوع، زد على ذلك، أغاني الفصحى التي تغنى وطرب لها الشعب، منها تجربة الراحل بوليفة مع الشاعر سليمان جوادي، كرائعة "ما قيمة الدنيا" و"ضم الحبيب حبيبه" لعاشور فني، معطية طابعا آخر للأغنية الجزائرية، انتشر صداها في المشرق، ثم أتت فترة الإرهاب وكان معها السكون وبعض من الراي، لتظهر بعدها ظاهرة أغاني الملاعب التي سبقت النخب في طرح انشغالات الجزائريين.

توقف المحاضر أيضا عند مسألة السياق العام (الظروف)، الذي يساهم في نجاح الأغنية، كأغنية "سبحان الله يا لطيف" للعنقى، والتي خرجت في ظروف خاصة عاشتها الجزائر، ليخلص إلى أن الذائقة الفنية الموسيقية (الذوق) لا تحسب بالمعايير العلمية، بل بالوجدان الذي هو كائن مركب ومعقد، وأنه لا وجود للبذيء المطلق، فهناك روائع قصائد شعبية في هذا المنحى، لكنها لا تؤدى إلا ضمن مقام محدد.

للإشارة، شهدت المناقشة ثراء وتدخلات من مختصين وفنانين وسجالات زادت في توسيع موضوع الندوة، وقد طالب بعضهم بتسجيل مثل هذه الندوات الهادفة وبثها للجمهور.