في ذكرى سبتي وجاوت ووطار

سلالة نادرة حلمت بمشروع ثقافي واعد

سلالة نادرة حلمت بمشروع ثقافي واعد
سلالة نادرة حلمت بمشروع ثقافي واعد
  • القراءات: 620
مريم. ن مريم. ن

استحضر الكاتب والإعلامي إدريس بوذيبة مؤخرا، ذكرياته مع رموز ثقافية ثقيلة في المشهد الجزائري، كان لها حضورها المميز في المشهد الجزائري، وتركت أعمالا ومواقف وذكريات جميلة مع الوطن والأصدقاء، وظلت لآخر لحظة تحلم بمشروع ثقافي جزائري رائد.

أشار الأستاذ بوذيبة إلى أنه وسط هذه المناخات الكونية الضاجة بالفقدان والارتباك، استقبل ذكرى اغتيال الشاعر والروائي والإعلامي الطاهر جاوت، هذه الشخصية الثقافية المؤثرة والملتزمة التي دفعت حياتها، ثمنا لمعتقدها الصلب في الدفاع عن قيم الحرية والعقل والإبداع والمواطنة، إن هذا الأديب المتمرس سليل المنطقة الساحرة أزفون، القلب النابض للثقافة الوطنية التي أنجبت العديد من القامات السامقة، أمثال ايقربوشن، إسياخم، العنقى، فلاق، حلمي وغيرهم ...، كان المتحدث مع مجموعة من أدباء الشرق قد تعرف على الفقيد الطاهر جاوت -كما أشار إلى ذلك أيضا، الأديب محمد زتيلي- في الثمانينات، من خلال الحضور الدائم لأغلب المهرجانات واللقاءات الأدبية، ”أحيانا كمدعوين وأحيانا كمنظمين وفاعلين، والمدن التي كانت تجمعنا هي على الخصوص قسنطينة، وهران، سكيكدة، عنابة، سعيدة، بسكرة وغيرها”...

لقد كان الطاهر جاوت ـ يضيف بوذيبة- ”بهدوئه ودعة أساريره وشواربه المميزة ومظهره الأنيق الذي لا يشبه أحدا غيره، ورغم ما يبدو عليه من تحفظ وانطواء، فبمجرد اقترابك منه يمنحك مودته واهتمامه، وقد تكون هذه الصفة سببا في اتساع دائرة الصداقات التي تربطه بالعديد من الأدباء الذين يكتبون باللغة العربية، كما كان على اطلاع واسع بمختلف التيارات الفكرية والفلسفية وتاريخ الفن والسينما، بالإضافة إلى تعلقه ببعض الأدباء الجزائريين، ومنهم الفقيد رابح بلعمري الذي أعتبر نفسي قد اكتشفته من خلاله، ودفعني هذا للاطلاع على أعماله، وبالفعل نظمت ملتقى علميا حول حياة وأعمال رابح بلعمري سنة 2011، حين كنت مديرا للثقافة بولاية سطيف، وهو على ما أعرف، أول ملتقى ينظم حول هذه الشخصية الأدبية الفذة”.

يقول الكاتب ”لقد كان لقائي الأخير بالطاهر جاوت قبل اغتياله بأيام في منتصف ماي 1993، حيث كنت أسير في شارع ديدوش مراد بالجزائر العاصمة، وفجأة وبلا موعد، رأيته ينتصب أمامي، فتعانقنا بمودة، وكان يبدو منهكا ومكدودا والعرق يتصبب من جبينه، وهو في حالة ذهنية مضطربة، ومع ذلك، أصر أن يدخلني لأقرب مقهى قائلا ”لا يعقل أن لا أجلس معك ولو لدقائق، وأنت القادم من قسنطينة، وبالحرف قال لي (عيب يا إدريس أن أتركك...)، لقد كان في طريقه إلى مقر جريدته، تحدثنا قليلا، ثم بادرني مازحا بالسؤال ”هيا كيف نترجم إلى العربية عنوان الجريدة (Ruptures) ؟ فقلت له (قطيعات) و(قطائع)، وأردفت ضاحكا ”المهم يا الطاهر ابتعد فقط عن مصطلح (القطيع) و(القطعان)، استلطف هذه المزحة وقهقه بصوت عال، قائلا ”اطمئن لن يحدث هذا، وسألني بإيجاز عن أخبار الصديقين محمد زتيلي” والراحل مصطفى نطور، ثم ودعني على عجل، كأنه كان يسابق الموت لإصدار العدد الأخير من أسبوعيته، كان هذا آخر لقاء جمعني به في منتصف شهر ماي 1993، قبل اغتياله يوم 26 ماي ببينام”.

وصف الكاتب الاغتيال بأنه كان الصدمة الكبيرة والعنيفة داخل الوسط الثقافي والإعلامي، إثر هذه الفاجعة التي ألقت بظلالها على الحياة اليومية للمثقفين والإعلاميين، الذين اضطر البعض منهم إلى مغادرة مساكنهم أو الرحيل، لأن مسلسل الاغتيالات قد تسارع، وكان من أكثر المتأثرين بتداعيات هذا الاغتيال الجبان، الكاتب الروائي خلاص جيلالي، الذي كانت تربطه بالفقيد وشائج متينة وقوية، فقد عصفت به هذه الفجيعة وتعرض لانهيار نفسي، كاد أن يقذف به في الظلام.

يستحضر الكاتب أيضا، حين حديثه عن الراحل جاوت، الروائي الطاهر وطار الذي أزعج بعض المثقفين ببعض تصريحاته، لكنه يبقى حالة خاصة في ”تركيبته” التي مهما اجتهدنا في تحليل مكوناتها، فلن نجد الإجابة عنها.

يحكي الكاتب أنه كان مع وطار بـ"الجاحظية” يوم اغتيال الشاعر والمفكر يوسف سبتي، بعدما استضافه في بيته، وكما هو معروف، فقد كان بيته مأوى لاستضافة الكتاب والأدباء من كل الاتجاهات والأطياف. كانت الساعة في حدود التاسعة صباح يوم 28 ديسمبر 1993، حين نزل خبر اغتيال يوسف سبتي، هذا المثقف العلماني المتصوف الذي اختار أن يعيش وحيدا، وأغلب أكله كان كسرة الشعير والبقول، وتكاد علاقته بوطار أن تجعل منه واحدا من أسرته، فهو أمين عام جمعية ”الجاحظية” وصديقه الشخصي لسنوات طويلة.

مازال الكاتب بوذيبة يذكر حالة الذهول والصمت التي خيمت لدى سماع الخبر المشؤوم، وبعد حوالي الساعة، استعاد وطار أنفاسه المقطوعة.

يعود الكاتب لذكرى الطاهر جاوت، وأنه سيظل واحدا من المثقفين الذين ينتمون لسلالة العصافير النادرة، فلقد كان له مشروعه الثقافي ورؤيته الفلسفية للعالم، تجمع بين الهوية والاختلاف والانعطاف على الجوهر الإنساني في حقيقته العرفانية المتعالية، التي تناهض البداهة واليقين.