الدكتورة عمارية حاكم في ملتقى التجارب الصوفية

سبر لأبعاد النزعة الرمزية في تصوف الأمير عبد القادر

سبر لأبعاد النزعة الرمزية في تصوف الأمير عبد القادر
الدكتورة عمارية حاكم
  • القراءات: 692
لطيفة داريب لطيفة داريب

قدّمت الدكتورة عمارية حاكم مداخلة بعنوان: "الأبعاد الرمزية الجمالية في الخطاب الصوفي عند الأمير عبد القادر الجزائري"، خلال مشاركتها، مؤخرا، في الملتقى الدولي "تجارب الصوفية: الأبعاد- النزعة الرمزية"، من إعداد جامعة الأغواط وجامعة وهران، ممثلة في مخبر اللهجات وعلم الكلام. الدكتورة عمارية في ورقتها هذه، قدمت نبذة عن حياة الأمير عبد القادر، وعن إبداعه الأدبي، الذي يأتي في مقدمته كتاب "ذكرى العاقل وتنبيه الغافل"، ومؤلف "المواقف"، وهو المخطوط المحفوظ بالمكتبة الوطنية بالجزائر، بالإضافة إلى مذكرته التي كتبها بسجنه الذي دام قرابة خمس سنوات منذ عام 1849، وكذا مجموعة من أشعاره. ثم عرّفت الدكتورة بمفهوم التصوف بصفة عامة، ثم مفهومه عند الأمير، حيث جاء في كتاب "المواقف" للأمير، أن التصوف هو "جهاد النفس في سبيل الله، أي لأجل معرفة الله، وإدخال النفس تحت الأوامر الإلهية، والاطمئنان، والإذعان لأحكام الربوبية، لا لشيء آخر من غير سبيل الله".

أسباب تصوف الأمير

ذكرت عمارية أسباب تصوف الأمير، والبداية بنزعته الصوفية، التي ربما تعود أسبابها إلى أنه من حفدة سيد الخلق محمد، صلى الله عليه وسلم، مرورا بنزعته الإنسانية، إذ إن للأمير مواقف، تنم عن أنه لم يكن يؤمن بالحواجز الجغرافية والحدود الفاصلة بين البشرية، ووصولا إلى تربيته الدينية، فإيمانه بالقضاء والقدر، إذ يؤمن الأمير المجاهد والسياسي والفارس المغوار، بأن كل ما حدث له انطلاقا من الجزائر، إلى وهران، إلى فرنسا، إلى دمشق، إلى الحجاز، كان تهيئة، ومشيئة إلهية للعبادة والتصوف. وأضافت الدكتورة: يطول الحديث عن تصوف الأمير وتاريخه وأسبابه، وكل ما تعلق بحياته وبنزعته الصوفية، وعن شعره وأغراضه، ولكن ما يهمها في بحثها  هذا، هو سر تلك الخمرة التي تغنى بها الأمير في شعره، فهل هي الخمرة الحقيقية التي تسكر وتذهب بالوعي وتجعل شاربها يرتكب الجرائم عاصيا الله ورسوله، أم هي خمرة إلهية، حيث إن الحب الإلهي هو الذي يجعل صاحبه ثملا بحبه لله والتفاني في هذا الحب؛ فأيهما أحلى يا ترى؟

مفهوم التصوف عند الأمير

وفي هذا السياق، قالت عمارية إن لغة الصوفية لا تقرأ عند السالكين إلا بعين القلب. كما تمثل فضاء مهما، ينبغي الوقوف عنده بتأن لكل من يروم مقاربة النص الصوفي دلاليا ومعرفيا، إذ في ساحاتها سقط فرسان الصوفية شهداء أفكارهم وآرائهم الذوقية العرفانية. وعلى أسوار حروفها نُكل بالحلاج، وصُلب في النهاية عند محاولته المبكرة، توليد لغة صوفية جديدة. وبسبب هذه اللغة اتهم بعض المتصوفة بالزندقة، ونعت بعضهم بالكفر والخروج عن الدين.

وتابعت: يعود اتهام المتصوفين إلى معجمهم اللغوي الخاص بهم. كما إن اللغة الصوفية تمثل إشكالية منهجية ومعرفية مطروحة منذ القدم عند الباحثين والمحققين القدامى والمحدثين، وهو ما يعد السبيل الوحيد المفضي إلى عملية قراءة النص الصوفي، وتفكيك بنيته الدلالية". وقالت: "يبدو أن السبب في نشأة الشعر الرمزي عند الصوفيين، هو تلك الحملة القوية التي شنها الفقهاء على المتصوفة، إذ أخذ كل فريق يناوئ الآخر ويشنع عليه، فاضطر الصوفية إلى الرمز والتعمية في كلامهم بنزعتين: الغزلية والخمرية، ولعل المتصوفة قد اصطنعوا هذا الأسلوب الرمزي لأنهم لم يجدوا طريقا آخر ممكنا، يترجمون به عن رياضتهم الصوفية". ولقد كانت الرمزية الخمرية عند الصوفيين، غنية صادقة، فقد عبر الصوفيون عن شوق الروح إلى معرفة الله، ومحبته بعبارات تكاد تكون عبارات المتغزلين من شعراء الغزل والنسيب، بل إن هذا التشابه ليشتد أحيانا، فنتوهم أن قصيدة صوفية هي قصيدة خمرية أو غزلية، كشأن قصائد شعراء الخمرة والغزل.

وبالعودة إلى شعر الأمير، أكدت عمارية أنه يمكن التمييز بين رمزين صوفيين هما: الخمرة، والحبيب، وهو النهج الذي سلكه الأمير كسابقيه؛ (ابن الفارض، وابن عربي...)، لتنتقل إلى الحديث عن قصيدة الخمرة الإلهية للأمير، فقالت إن هذه القصيدة الرائية تعد من جانبها الظاهر، خطابا مناقضا للحقيقة الشرعية من وجهة نظر التلقي السلبي، لذلك فالخطاب الصوفي أقصي من دائرة الكتابة الأدبية، لأنه خاطب الناس بغير ما ألفوه، فتعطل نجاح العملية التواصلية لالتباس مفردات المعجم الصوفي، ولما تحمله تلك اللغة المستعملة، من رموز غير مشفرة. كما إنه لغموض الخطاب الصوفي على المتلقين واتهام سالكيه بالزندقة والخروج عن الدين، عمد الصوفية إلى الاجتماعات السرية.

أما عن خصائص خمرة الأمير، فقد تغنى الأمير - حسب عمارية - بالخمرة في قصيدته الصوفية، على غرار قصيدة (ابن فارس) الميمية، التي يرمز فيها إلى المعرفة الإلهية أو معرفة الحبيب الأزلي، حيث تتشابه القصيدتان إلى درجة التطابق. وأضافت أن استعمال الأمير ألفاظ معجمه الصوفية الخاص بالخمرة وأثرها وغايتها (كأسا صرفة، مدامة، خمر، لا برد ولا حر، ختم إنائها، تخلو طوعا لا قهرا، شمت ريحها، معتقة، مصونة، دن، ترائب والنحر، ولا هالنا قفر ولا راعنا بحر...)، "لم يكن اختيارا عفويا استدعته الضرورة الشعرية ولا تفعيلات الأوزان، وإنما هو اختيار مقصود، لأنه أراد أن حالة السكر تتصف بالدوام، إذ المتصوف على اتصال دائم بمعبوده الحبيب، وهو دائم الذكر له حتى لكأنه يجد في ذلك ما يبعثه على النشوة والسكر. وحالة المحبة الخالصة التي تستشفها من ذكر الحبيب، تقتضي هذا السكر الروحي".

وقالت الدكتورة إن الذكر هو قوام المجاهدات الصوفية؛ أي "طرد الغفلة، فإذا ارتفعت فأنت ذاكر وإن سكت"، وهو، أيضا، "الخروج من ميدان الغفلة إلى فضاء المشاهدة على غاية الخوف، أو لكثرة الحب". فالتصوف قيمة روحية يلتزمها الصوفي، ليبقى على اتصال دائم بالله عز وجل، كما يلازم الثمل الخمرة ويطلب النشوة، فخمرة الأمير لا تسكر ولا تتلف العقل. وختاما، فإن شدة تعلق الذاكر بمحبوبه في الرؤية الصوفية، تماثل شدة تعلق الثمل والمدمن بتعاطي الخمرة في موقف الشرب المادي. ولا يخفى على متلق ما ينطوي عليه هذا التماثل من جماليات وقيم فنية، وهو مزاوجة بين البعد الفني والغاية الخليقة في جنوحهم إلى نزعة السكر والصوفية، تضيف عمارية.