"إلى الجحيم أيها الليلك" من عمق تجربة سميح القاسم

رواية تؤدي إلى تيار الوعي

رواية تؤدي إلى تيار الوعي
  • القراءات: 885
الوكالات/ ق.ث الوكالات/ ق.ث
فقدت القصيدة الحديثة في الأيام الأخيرة شاعرا ذا إحساس عال في توظيف اللغة للتعبير عن خصوصيته الفنية وعمق تجربته الوجودية، في مجتمع تغير من حوله بطريقة لم تحدث في تاريخ الإنسانية، فإذا لغته العربية غريبة وإذا أبناء قريته غرباء وإذا وطنه مستلب حتى اسمه تغير فصارت فلسطين تكتب إسرائيل، وصار اللسان العربي ينقلب على ألسنة الوافدين إلى اللسان العبري، وإذا الهوية تتساقط من أيدي العربي ويحملها العبري.
وحده سميح القاسم وقف كأشجار الزيتون صلبًا محافظًا على هويته ولسانه وروحه عربيا بين الأعاجم الجدد، بل مجدد للعربية مرتقيًا بها بشعره ونثره، وقد عرفنا سميح القاسم شاعرًا وها هي رائعة من روائع نثره الحداثي يرتقي فيها بالرواية لغًة وفنًا ليهدي "إلى الجحيم أيها الليلك".
المونولوج الداخلي، أو مناجاة النفس، من الأساليب الفنية المستخدمة في الرواية الحديثة سبق أن استخدمه بعض كتاب القرن التاسع عشر للكشف عن خفايا الشخصية التي لا تستطيع الإفصاح عنها، والتي لا سبيل للآخرين إلى معرفتها، لكن نجوى النفس استخدمت في تلك الأعمال بطريقة تختلف عنها في "الفنية" المتبعة في روايات "تيار الوعي" كما كتبها روادها الأول.
كانت نجوى النفس في روايات القرن التاسع عشر جزءا من السرد الروائي، أو توضيحا لأمور لا تستبان بطرق السرد التقليدية، وفي بعض مسرحيات شكسبير، مثل ماكبث وهاملت كثيرا من نجوى النفس، لكن هذه النجوى تقفز إلى ذهن الشخصية بعد أن يكون انفعالها قد تبلور في أفكار منظمة، أما في رواية تيار الوعي، فالمنولوج يقدم حالة الإنسان قبل أن يصل إلى النتائج العقلية المنطقية المنظمة، أي أنه يقدم انسياب الوعي وتدفقه أثناء انسيابه، لأبعد أن يكون قد توصل إلى قرارات وأفكار خاصة، فرواية "تيار الوعي" تنتقل إلى عالم غير مرئي، وتقع الأحداث في عقل الشخصية المحورية، انطلاقا من أن الشعور هو المحرك الرئيسي للإنسان. إن ما يهم الروائي في رواية "تيار الوعي" أن يوسع مجال الرؤية، بتصوير الإنسان من الداخل في بعض حالاته، وباستخدام كل ما أتاحت له الأساليب الفنية الجديدة في الرواية من إمكانات، ولعل هذا هو ما كانت ترمي إليه فرجينيا وولف بحديثها عن محاولة الإمساك بالذرات التي تتساقط على الذهن لتسجلها وقت سقوطها على الذهن، بالترتيب الذي تسقط به.
وفى رواية "إلى الجحيم أيها الليلك" لسميح القاسم محاولة لتسجيل هذه الذرات، في عملية تذكر صعبة للبطل الراوي، فهو يتذكر طفولته وحبه للفتاة "دنيا" التي هاجرت من وطنها بعد النكبة وأصبحت لاجئة، وهو لا يكف عن العمل في سبيل استعادتها، ومن هذا العمل الالتقاء باليهود للدفاع عن قضيته، كما حدث مع السيدة "روت" التي هربته في سيارتها ليتكلم عن قضية في حلقة "أبناء سام" التي تديرها في تل أبيب.
ومنهم "ايلانة" التي فقدت حبيبها أورى في حرب الأيام الستة، وماتزال تتوقع عودته وتحرص على الموعد الدائم معه في مقهى "كسيت" بشارع "ديزنجوف" بتل أبيب، وهذا العمل الفدائي ضد الدولة العبرية.
الرواية مونولوج طويل يتداعى إلى ذهن الراوي في عملية بحثه الطويل لاستعادة حبيبته "دنيا". وفي لقاء مع اليهودية "ايلانة" في المقهى، كان موضوع الحديث "أورى" الغائب فيدعى الراوي أنه يعرفه، فقد دله على عنوان كان يسأل عنه، لكن "إيلانة" تقول "إنها" العنوان الذي "دلك" عليه، فأورى لا يعرف عنوانا "سواى" ويتفقان على لقاء لمناقشة قضيتهما "استعادة أورى الغائب واستعادة دنيا الغائبة" والراوى يهيىء نفسه للحوار المنتظر، ويعد الحجج التي يدافع بواسطتها عن نفسه إذا ما أثير موضوع "اختفاء أورى" أو قتله.
"في الساعة السابعة ينبغي أن أكون في (كسيت) ايلانة نفسها ضربت هذا الموعد لدي كلام كثير أقوله لها ولدي صمت كثير أقوله لها. أحس بمسؤولية خاصة تجاه ايلانة، لقد فرضت علي ايلانة، وشغلتني بها رغم انشغالي الجارح بحبيبتى اللاجئة دنيا. حضور ايلانة حكم على دنيا بالغياب. دنيا هي همي الأكبر، ومع ذلك ومن أجل دنيا، ومن أجلي شخصيا تثيرني أمور ايلانة هذه. تراها تتهمني في قرارتها بقتل أورى أنا لم أقتل أورى نحن قتلنا معا برصاصة واحدة لم تكن تلك الرصاصة من هنا كانت تلك رصاصة قراصنة العصر، ولصوص العالم القديم الغارب. كانت تلك رصاصة أعداء الإنسان ورسل الهمجية. نحن العرب لم نقتل أورى رصاصة حملها أروى عبر البحار قتلتنا معا. أوهموا أورى أنه لا يمكن أن يعيش إلا بموتي، فمات هو قبل أن يستوعب استحالة موتي. يجب أن تعرف ايلانة هذه الحقيقة وإلا فسنقتل مرارا، أنا وأورى سنقتل مرارا ما لم تعرف ايلانة هذه الحقيقة، سأقول لها كل شيء سأصارحها بكل مخاوفي".
وهناك بالطبع إيهام متفق عليه، هو الذي يقوم على أساسه الفن بشكل عام، ويتمثل الإيهام هنا في الحديث عن المونولوج الداخلي المباشر بأنه لا يفترض تدخل المؤلف، ولا يفترض، كذلك وجود السامع، هذه العملية لا يبررها إلا إعادة التأكيد على أن الفن يقوم أساسا على الإيهام. هناك في الواقع مؤلف يخطط لشخصياته ويخترع خطوط حركتها، ويقدمها إلى القارئ من خلال سلسلة من الروابط نسميها الأحداث، أو السرد الروائي، أو التداعي، أو أية طريقة تربط بين المؤلف وما يدور في ذهنه، وبين القارئ المتلقي والوسيط بينهما، وهو العمل الفني.
في مونولوج سميح القاسم، يتحول الفكر الذي يدور في ذهنه إلى فن باستخدام تكتيك خاص بتيار الوعي هو التداعي، لذلك تحرر الكاتب من الترتيب المنطقي للأحداث والبناء التقليدي للشخصيات، فهناك فكرة واحدة تقفز إلى بؤرة شعور البطل الراوي، ثم تختفي بعد أن تكون قد أحدثت تأثيرها المطلوب بما أعطته من إشارات ذات إيحاء خاص، وتحل فكرة أخرى، وهكذا، وفي النهاية يتكون إحساس عام بالقضية التي يواجهها البطل، وهو إحساس تثيره تلك الذكريات التي تداعت إلى ذهن البطل منذ طفولته حبه لدنيا، نزوح اليهود إلى دياره، دفاع العرب عن فلسطين، قيام الدولة العبرية، دفاعه عن أرضه، المؤتمرات التي تعقدها جماعات متعاطفة مع الفلسطينيين داخل إسرائيل، الضباب الذي يعيش فيه ويمزقه، الواقع التعيس الذي هو أدنى من السجن، الانضمام للفدائيين، البحث عن حل لاستعادة دنيا، وغيره أشياء تتداعى إلى ذهن البطل بلا ترتيب، فإذا حاولنا أن نعيد ترتيب ما يدور في ذهنه، من خلال الاقتباس السابق من مونولوج الرأي، فقد تزداد الرواية وضوحا.
في العبارة الأولى "في الساعة السابعة ينبغي أن أكون في كسيت"، تتمثل رغبة الراوي الملحة في لقاء ايلانة وفي العبارة الثانية "ايلانة نفسها ضربت هذا الموعد" دفع لتهمة ربما توجه إليه، أو إحساس داخلي بنفي أي علاقة مع "عدوه"، عن أسباب اندفاعه للمقابلة، لذلك يفسر سبب المقابلة في العبارة الثالثة "لدي كلام كثير أقوله لها، وفي العبارة الرابعة "أحس بمسؤولية خاصة تجاه ايلانة"، تعبير مباشر عن حسن نيته تجاه "ايلانة" وتعبير عن موقف متحضر نحو عدوه، وإمكان التفاهم، إن حدث، وتمهيد لما سيوضحه عن موت حبيبها أورى وربما تبريره كذلك، مع أن أحدا لم يبرر طرد دنيا، لذلك يعود ليدفع تهمة ربما توجه إليه عن ضعفه نحو ايلانة، فيقول في العبارة رقم خمسة؛ "لقد فرضت على ايلانة وشغلتني بها رغم انشغالي الجارح بحبيبتى اللاجئة دنيا".
هذه الجملة تحتاج إلى تحليل خاص من حيث المعنى، وفي العبارة السادسة، يزيد الموقف وضوحا بالمقارنة بين الفتاتين، وإظهار موقفه الذي غاب طويلا حضور ايلانة حكم على دنيا بالغياب.
هذا هو تكتيك التداعي في رواية تيار الوعي، فالبطل في هذه الراوية أشبه ما يكون ببندول الساعة الذي يتحرك بين طرفين ويجب أن يكون تحركه دقيقا لئلا يفشل ولأنه يريد "دنيا"، يتحرك نحو ايلانة، ولأن تحركه نحو ايلانة يثير الريبة، لذا يدفعه ذهنيا ويبرره، وفي الوقت نفسه يبرر لقاءه  بايلانة بأنه من أجل دنيا، فيستمر قائلا في العبارة السابعة "دنيا هي همي الأكبر، مع ذلك، ومن أجل دنيا ومن أجلى شخصيا تثيرني أمور إيلانة، أي أنه يقصد أن لقاءه مع إيلانة هدفه انقاذ دنيا، وإنقاذ نفسه بالتالي، فهو ودنيا حقيقة واحدة انشطرت إلى شطرين، ثم يعود إلى ايلانة مرة أخرى.
إنه في الواقع مهتم بها بطريقة غريبة، كأنه مسئول أمامها شخصيا عما حدث لحبيبها، فإيلانة هي المحكمة، والقاضي، والادعاء، وبيدها مفتاح تجريمه أو ابرائه. في هذه المحكمة يقف الفلسطيني ـ الذي لم يسم نفسه طوال الرواية ـ حزينا مدافعا عن براءته بكل قدراته "تراها تتهمني بقتل أورى؟ أنا لم أقتل أورى نحن قتلنا معا برصاصة واحدة، لم تكن الرصاصة من هنا كانت تلك رصاصة قراصنة العصر ولصوص العهد القديم الغارب كانت تلك رصاصة أعداء الإنسان ورسل الهمجية" هكذا جاءت العبارة محاولة لتصور ما يمكن أن يواجهه به عند لقائهما، ومحاولة للرد عليه والدفاع عن نفسه، بل إنه وصل إلى قمة التسامح وقمة التحضر عندما قال: "نحن قتلنا برصاصة واحدة" فهو قد استطاع أن يتجاوز محنته ويرى طرفي القضية ضحايا ويستشهد على هذا باستقراء التاريخ، وتوظيف التاريخ جزء من عملية التركيز الشديد للموضوع وأبعاده عن التفاصيل التي تنشأ عن شرح الأسباب والمسببات "نحن قتلنا برصاصة واحدة" هكذا أحال الفكرة إلى جذورها التاريخية ولم يتخل عن إيقاع اللحظة التي يحسم فيها قضيته.
ثم يترك التفسير للقارئ ولا يحدده. إن تعليل هذا يرجع إلى رغبة الكاتب في توسيع المعنى وإعطائه شمولا أجمل من حصره في حقيقة محددة واقعة: "كانت تلك رصاصة قراصنة العصر ولصوص العالم القديم الغارب" هي نظرة حضارية للموضوع، وللقارئ أن يتصور قراصنة العصر ولصوص العالم القديم.
أما لصوص العالم القديم فهم الأوروبيون في مرحلة تخبطهم في ظلام عصورهم الوسطى، عندما كانوا يقطعون البحار على سفن المسلمين التجارية، مما كان سببا في فتح جزر أوروبية لإحكام السيطرة وتأمين الحياة المدنية بين ثغور المسلمين في مغرب العالم الإسلامي ومشرقه.
وقد يكون لصوص العالم القديم هم الصليبيون القادمون من أوروبا، كذلك لاستعمار الشرق فلهؤلاء سابقة في احتلال قطعة من وطنه هى بيت المقدس، وتجاهل كل الحقوق الخاصة بأصحاب هذه الأماكن، حتى أجبرهم القائد المتنصر على الخروج.
أما قراصنة العصر فلا تفسير لهم إلا الاستعمار الإنجليزي الذي مهد لقيام إسرائيل أو المهاجرون اليهود الذين أخذوا الوطن وطردوا سكانه، أو هما معا.
هناك مسحة من التفاؤل في موقف الفلسطيني يدل عليها استعماله لكلمة "الغارب" في العبارة التي تحتها خط، ومع أن الكلمة تنسحب على العالم القديم، فإنها تعطي شمولا للمعنى باستخدام العطف بالواو.
وفي موقف آخر يتبين مدى ما يقوم عليه فكر الإسرائيلي ووعيه من خطأ في إدراك الحقائق في لحظة رائعة يتقابل العدوان وجها لوجه، كلاهما مصاب يبحث عن مأوى بعد معركة بين المتخاصمين. يتوارى الفلسطيني في ظل شجرة يضمد جراحه، فإذا أورى والدم ينزف من ثقوب في ثوبه يبحث عن مأوى لتضميد جراحه فالتقيا، حياه الإسرائيلي فحياه، وطلب شربة ماء فأعطاه حدثه عن هتلر، فحدثه عن هتلر وموسولينى ودير ياسين.
حضر الرمز أو الإيحاء ويتمثل في اختيار أسماء الشخصيات، ومن الواضح أن الكاتب يختار أسماء شخصياته ليحقق بها قدرا من الإيحاء أو التفسير، فالفلسطينية المنفية اسمها دنيا والدنيا لا يقصد بها الكون أو الأرض، فالبطل، في هذه الحالة، يعيش فوق أرضه وإن اختلفت الأسماء، لكنها هذه الدنيا التي يراها كل إنسان من خلال ممارسته لحياته بشكل طبيعي، فيرى فيها سعادته أو شقاءه أحلامه أو ذكرياته، هي عالمه الوجداني أو الشعوري أو النفسي الذي يحيا في ظلال وجوده. و"دنيا" منفية، لذلك يعيش الفلسطيني غريبا منفيا في دنيا أخرى بعيدة عن دنياه.