تأبينية الراحل الطاهر بن عيشة
رفقاء الدرب يستحضرون الذكريات والعبر

- 1121

نظم رفقاء وأصدقاء الراحل الطاهر بن عيشة، أمس وقفة تأبينية قدموا فيها شهاداتهم وذكرياتهم مع هذا المثقف، صاحب السجالات، مؤكدين جميعهم، وعلى قلب رجل واحد أنه عاش في الظل رغم مسيرته النضالية والفكرية الحافلة، داعين إلى ضرورة بعث أعماله وتراثه كي تتشبع بها الأجيال مثلما تشبعوا هم ومن قبلهم بأفكاره وأخلاقه.
نشطت اللقاء الذي احتضنت فعالياته جريدة "الحوار"، الأديبة حبيبة محمدي التي ترحمت على روح الفقيدين آيت أحمد وبن عيشة اللذين تتشابه مسيرتهما إلى حد كبير.
بطل الحكايا بامتياز صمت إلى الأبد ليترك أحباءه يتحدثون عنه كما عرفوه، علما أن الكثيرين منهم لم يتردد في الحضور.
في كلمته الترحيبية، أكد السيد محمد يعقوبي أن آيت أحمد وبن عيشة يعتبران من هؤلاء الذين قتلناهم بالأحكام المسبقة قبل موتهم، لذلك نعتنا الواحد بالجهوية والتعصب والآخر بالشيوعية والإلحاد ليثبت موتهم الحقيقي (جنائزهم) أنهم كانوا أقرب للشعب وهو درس بليغ للمستقبل.
فتح مجال الشهادات الأستاذ عبد القادر نور، وهو أول رئيس تحرير بمؤسسة الإذاعة والتلفزيون بعد الاستقلال، ومن ضمن ما جاء فيها أن الراحل بعث سنة 1963 رسالة هامة جدا متعلقة ببعض قضايا الساعة، لكنه لم يوقعها باسمه ولم تحمل عنوانه فكانت مجهولة، وبعد أن قرأها المدير عيسى مسعودي، أعجب بها وطالب الجميع بالبحث عن صاحبها، ومن خلال الخط تعرف عليه المجاهد عبد العزيز شكيري، فاستدعاه للإذاعة فورا ورحب به مسعودي ووظفه على الفور، وهنا يضيف المتحدث قائلا: "وجدت بن عيشة مختلفا عن الغير ممن حولي، أذكر أنه اختار عن رضا خاطر برنامج "صوت العمّال" وفيه كان قاسيا ومدويا، جلب لنفسه المتاعب لكنني كنت المدافع الشرس عنه مهما تطلب ذلك مني من تضحية لأنني أعرف جيدا قيمته".
كان الراحل ينتقد على المباشر عبر أمواج الأثير اشتراكية بومدين ولم يكن راضيا عن 19 جوان، لكن بومدين لم يمسه قط بسوء.
أما صديق الراحل الدكتور أحمد حمدي، فأكد أن صراحة بن عيشة سببت له المشاكل، وكان المتحدث يصف المرحوم في كل مرة بالموسوعة، مشيرا إلى أنه دخل مهنة الصحافة سنة 1940 ثم أسس مع الزاهري سنة 1947 "المغرب"، كما أسس بعد الاستقلال رفقة الطاهر وطار ومفكر تونسي "الجماهير" ثم "الثورة والعمل".
كشف المتدخل جوانب كثيرة لا يعرفها الكثيرون عن الرجل منها أنه كان مهتما بالمسرح لذلك أسس رفقة الشهيد رضا حوحو فرقة "المظهر القسنطيني"، إضافة إلى نضاله في حزب الشعب، علما أنه لم ينتم قط للحزب الشيوعي عكس ما روج عنه، وقد التحق بالثورة منذ الرصاصة الأولى وبالضبط بمنطقة الأوراس، حيث كان مرافقا للبطل عباس لغرور الذي خلف الشهيد مصطفى بن بولعيد وتنقل معه حتى تونس.
اهتم الراحل أيضا بالتراث ودافع عن تاريخنا الوطني وكان متبحرا فيه ومعجبا برجاله منهم علي بن أبي الرجال المسيلي، عالم الرياضيات والميكانيكا.
بن عيشة كان أيضا حاضنا للمبدعين الشباب وكان لا يجاملهم ووضعهم على أول الطريق، وقد دعا حمدي بالمناسبة مؤسسة التلفزيون إلى بث حصة أنجزها عنه الصحفي محمد دحو، تعرض جوانب من حياته وأحاديث له لم يشاهدها الجمهور لأسباب مجهولة.
من الشهادات المهمة التي قدمت أيضا شهادة الإعلامي المعروف علي ذراع الذي عرفه منذ سنة 1976، أي عند فتح النقاش حول الميثاق الوطني لتتواصل المسيرة الإعلامية معه، وذكر سجالاته بقاعة الموقار وبمقاهي العاصمة وكذا مناظراته الساخنة مع المرحوم الشيخ أحمد حماني بحضور الراحل مولود قاسم نايت بلقاسم، وكان في كل مرة يرفض بأن يوصف بالشيوعي ويقول "إسألوا عني مساعدية"، علما أن الراحل شريف مساعدية الذي كان رفيقه في الجهاد لم يكن يتدخل فيما ينشره وينتقده حتى وهو على رأس حزب جبهة التحرير الوطني، وكان في كل مرة يرد "اتركوا بن عيشة يكتب ما يشاء فهو رجل ليس بالكذاب ولا المنافق".
شهادة الشاعر والصديق الوفي لبن عيشة سليمان جوادي حملت الكثير من الحميمية وقد بدأها بقصيدة رثاء جاء في مطلعها:
"انهض فأنت الزيت والمشكاة واستر علينا فإنها المأساة"
تضمنت الشهادة مواقف طريفة عاشها الراحل مع أصدقائه وكيف كان يعلق بالسخرية وبالحكمة وبالسهل الممتنع.
توالت بعدها الكثير من الشهادات منها التي قدمها محمد بوعزارة ومدني عامر ومحمد الصالح حرز الله وغيرهم.
سليمان جوادي ينعي صديقه الراحل :
الطاهر بن عيشة.. آخر اليساريين المحترمين
نعى الشاعر الكبير سليمان جوادي، صديقه الراحل ، الطاهر بن عيشة فكتب لـ«المساء":، "اﻷستاذ الطاهر بن عيشة رحمة الله عليه هو آخر اليساريين المحترمين في هذا الوطن ظلّ متمسّكا بمبادئه المنحازة إلى الطبقات الكادحة إلى أن توفّته المنية". وأوضح أنّ الراحل عملة نادرة في الوطنية ونكران الذات وأيقونة رائعة يصعب تعويضها ومن الرعيل اﻷوّل من المجاهدين الذين انخرطوا في حرب التحرير، فأبلى البلاء الحسن بقلمه ولسانه في المنشورات التي كانت تصدر عن جبهة التحرير الوطني.
وأضاف جوادي أنّ بن عيشة شارك بعد الاﻻستقلال في تكوين أجيال من الصحافيين في الاعلام المكتوب أوالمسموع أوالمرئي، كان بحّاثة في التاريخ، تستهويه الحضارة الاسلامية والبحث في كلّ ما هو غامض وغير مطروق. وقال "عرف الراحل الكبير الطاهر بن عيشة بمعارضته الشديدة الشرسة ومشاكسته للنظام وعدم انحنائه رغم المحاولاﻻت العديدة ﻹلإغرائه ومن ثمة إسكاته، كان يصدح بما يؤمن به دون خوف أو تهيّب ورغم الظلم الذي تعرّض له وخاصة مطلع ثمانينيات القرن الماضي إلاّ أنّه ظلّ كالطود الشامخ لم يتزعزع ولم ينحرف عما كان يحمله من قيم ومبادئ، وهو من المثقفين اﻷكثر شعبية لدى مختلف الطبقات الشعبية، لما يتمتع به من ذكاء وّقاد وسرعة بديهة، فأصبح الناس يتداولون مواقفه وأفكاره المشاكسة للسلطات على شكل نوادر وطرائف ظلت تتناقلها الأﻷجيال إلى يومنا هذا.. رحمة الله عليك سي الطاهر و " إنا لله و إنا إليه راجعون".