رواية جديدة لمرزاق بقطاش

ذكريات عن مدينة جالسة على طرف البحر

ذكريات عن مدينة جالسة على طرف البحر
مرزاق بقطاش
  • القراءات: 1014
لطيفة داريب لطيفة داريب

الصدق، كلمة طالما رددها مرزاق بقطاش في حواراتي العديدة منه، وهكذا جاءت أحداث روايته الأخيرة "مدينة تجلس على طرف البحر"، في هذا السياق، أبعد من ذلك، فقد عكست مرحلة الطفولة التي عاشها الأديب المرموق بشيء من الحنين والكثير من الصدق.

كتب مرزاق عن "عين الباردة" بالكثير من الحنين وبأسلوب سلس وممتع للغاية، بغية تخليد حيه الذي ينتمي إلى المحروسة، ابنة البحر التي تجلس على طرفه في استحياء أحيانا، وفي أحايين أخرى، تهب إليه بدون أدنى تردد. وقد تساءل الأديب والمترجم مرزاق بقطاش في بداية روايته الجديدة، التي تقع في 150 صفحة، عن شدة تعلقه بمقطع من أغنية شعبية تقول "تم تم يا لبريفو، ماشي تم، زد شوية يا  لبريفو"، بل إن هذا المقطع لم يستطع أن يبرح وجدانه ولا أن ينافسه فيها أي مقطع من أي أغنية كانت، ليتساءل مجددا "كيف استطاعت مدينتي هذه أن تحشر ذاتها حشرا في نغمة شعبية بالغة البساطة؟"

طفولة المنطلق وخاتمة المطاف 

انطلقت أحداث رواية "مدينة تجلس على طرف البحر"، الصادرة عن دار "أمل للطباعة والنشر والتوزيع"، من طفولة بقطاش، وبالضبط في أواخر عام 1948 أو في مطلع عام 1949، كتب عنها "الطفولة تحوصل الماضي والحاضر والمستقبل الغامض، فهي المنطلق، لكنها أيضا خاتمة المطاف".

تطرق بقطاش إلى صاحب المقطع الغنائي الشعبي الذي جاءهم من الجهة العليا لحيه "عين الباردة"، بعد أن قضى ثماني سنوات في سجن "لامبيز"، بعد قتله شخصا لمناوشات كلامية، ليحكم على عمي بوعلام بالسجن، بدلا من الإعدام أو النفي، بعد أن توسط له مدير المرسى الذي كان يعمل فيه كحمال. تساءل مرزاق الطفل "لماذا هبط إلينا هذا الرجل من الجهة العليا، ولم يصعد إلينا من الجهة السفلى، حيث توجد غابة يلجأ إليها الصعاليك والمنبوذون"، والحقيقة هي أن عمي بوعلام البالغ من العمر 45 سنة، كان يسكن في الجهة العلوية للحي، وبالضبط في دار النخلة، حيث عاشت والدته العجوز، وحيث فارقته زوجته حاملة معها طفلها بعد أن حُكم عليه بالسجن. 

عين الباردة 

لم يشأ مرزاق أن يسترسل في سرد تفاصيل أكثر عن عمي بوعلام، إلا بعد تقديم معلومات عن عين الباردة، التي قال إنها تجمع بين خصائص الريف والمدينة، تقع فوق ربوة عالية، وتطل على حي باب الوادي والأفق البحري الواسع، وعلى الجبال الغربية من الأطلس التلي، ويفضي الحي من الجهة العلوية إلى حي الأبيار، أما من الجهة الشرقية، فيطل باحتشام على قلب مدينتنا البحرية، أي على بلاد سيدي عبد الرحمن، كما أنه أشبه ما يكون مسورا بالأشجار، حتى أن القادم إليه من أي جهة كانت، يحسب أنه يدخل غابة شديدة الخضرة، بينما توجد في الجهة السفلى، غابة الصنوبر التي تنزل شيئا فشيئا إلى أن تحاذي حي باب الوادي، ولم يبق منها الآن إلا بعض أشجار الصنوبر، أما الدروب التي تؤدي إليها، فقد شرش فيها الإسمنت المسلح، كما تملك الغابة ثلاثة إلى أربعة ينابيع وناعورة عتيقة. 

عمي بوعلام صاحب المقطع الشعبي البريفو 

نزل عمي بوعلام إلى الغابة ولم يأبه باللصوص والمقامرين والحشاشين الذين يغزونها، وبدأ الأطفال، بما فيهم مرزاق، يعدون حركاته من دون الاقتراب منه، وها هو يخرج آلة "قنبري"، وهي عبارة عن هيكل سلحفاة أفرغت أحشاؤها وغرز فيها عود فتحولت إلى أداة موسيقية، وبدأ بالعزف عليها مرددا المقطع الشعبي "تم تم يا لبريفو، ماشي تم، زد شوية يا لبريفو"، فبدأ الجميع بالرقص من حشاشين وأطفال، وكتب مرزاق "وكأنما شربنا عقارا سحريا، فنقلنا جميعنا إلى عوالم أخرى"، وكتب أيضا "شعرت بنفسي أحلق فوق بلاد الجزائر المحروسة وما كان أروعه من تحليق، هل النبض المتسارع في صدري هو الذي أخذ يتحول إلى صور تتراكم في مخيلتي، دون أن أعرف طريقة إلى ضبطها وترتيبها؟"

حقيقة المقطع الشعبي "البريفو" 

كتب مرزاق أنه مقطع يردده السجناء والصعاليك في سهراتهم، حيث يأتي أحدهم بآلة "القنبري" ويخفي شيئا في المكان الذي يجمعهم، وإذا وقعت الطائلة على واحد من الجماعة، وجب عليه أن يرقص على نغمات المقطع دون توقف، وتحت تصفيقات الحاضرين الذين يستحثونه على وضع اليد على ضالته "تم تم يالبريفو، زد شوية يالبريفو"، وليس من حقه أن يتوقف على الرقص قبل أن يكتشف المكان الذي أخفي فيه ذاك الشيء الصغير، واستخرج هذا المقطع من رحم السجون، ذلك أن "البريفو" هو المسؤول الذي تعينه إدارة السجن لمراقبة المسجونين، وكثيرا ما يتميز بالشدة.

بعد سماعه لهذا المقطع، قال بقطاش، إنه تصور مدينته تقوقعت على ذاتها، ومن ثم نزلت صوب البحر لمعانقته، وتصور أيضا أن هذا المقطع يقول "أنا وأنت وحدنا في هذا العالم وليس لدينا من رفيق آخر سوى الجداول والورود"، ليبقى هذا المقطع مسيطرا على  كل ما حفظه كاتبنا من مقطوعات وأناشيد. 

من يحمي بوعلام؟ 

لم تسمح السلطة الفرنسية لعمي بوعلام بمغادرة الحي، بفعل وقعه تحت المراقبة الإجبارية، ولم يتمكن من العودة إلى عمله بالمرسى، فما كان من أبناء الحي إلا مساعدته ماديا، أما عن الحماية الواجبة عليه بحكم الخوف من الانتقام من أهل القتيل، فقد أوكلت المهمة إلى ثلاثة من الأصدقاء وهم ؛عميروش ابن عمة مرزاق، حمود الدوس، الماهر في القمار، ودحمان البوليتيك، البارع في تقصي أخبار السياسة والمدمن على المخدرات. 

الثلاثي الفذ 

البداية بعميروش، الذي ظاهره كباطنه، لا يعرف النفاق، قوي البنية رغم توسط قامته، يشرب الخمرة بين الحين والآخر، يحب السينما الأمريكية ويدافع عن كل مظلوم، وهو ما حدث حينما هدد عمي علي بالقتل بعد صفعه لمرزاق. كما كان يلقبه عمي بوعلام بـ"الرويجل" لأنه كان يتشبع بالفحولة.

أما دحمان البوليتيك، فكان شابا متوسط القامة أيضا، إلا أنه كان شديد النحافة ومصفر الوجه بفعل المخدرات التي أدمن عليها، بعد احتكاكه بالأمريكيين الذين خيموا في غابة عين البادرة خلال الحرب العالمية الثانية، وكان مولعا بمتابعة أخبار السياسة، وبحكم تعلمه الكتابة والقراءة، كان يشرف على قاعة التبريد التي توضع بها صناديق السمك في المرسى، وبفعل العداوة التي نمت بينه وبين الفاسدين، إذ لم يكن يقبل بالتلاعب في الأوزان، دُفع إلى مصلحة التبريد وبقي فيها عشرين دقيقة، إلى أن أنقذه عمي بوعلام، إلا أن رئتيه أصيبتا، وما زاد الأمر سوءا، إدمانه المخدرات، ليلقى حتفه عام 1953 تاركا وراءه زوجة وابنا، ووالدة كان يخاصمها حينما كانت تغني في الأعراس. الفتى الثالث هو حمود الدوس الذي تعلم القمار من الأمريكيين أيضا، وأصبح يضاهيهم، بل تجاوزهم براعة فيها، لقبه عمي علي بـ"آل كابون" نظرا لأناقته، ولع باقتناء المسدسات والمتاجرة بها، استطاع أن يجمع مالا كبيرا، اشترى به سيارة وبعد إلحاح من والدته، عمل في مدبغة بباب الوادي، إلا أنه فقد ساعده، فلم يستطع بعدها أن يلعب القمار مثل السابق، ليتخلى عن هذه الآفة بعد انهزامه أمام فتية، حيث أقحم ورقة "الدوس" في فمه وغادر المكان. 

الشيخ جلطي وبابا فرحات 

كان عمي علي يجد ضالته مع الشيخ جلطي وبابا فرحات، الأول اسكافي، يتقن اللغتين العربية والفرنسية، حول دكانه إلى مركز سياسي بعد عصر كل يوم، مما جلب له مضايقات الشرطة، بعد أن اشتكى عليه المالطي العنصري زيرور، وكان يقدم تحليلات معمقة في السياسة يستفيد منها عمي علي. أما الثاني، بابا فرحات هو أيضا خريج سجن "لامبيز" وقص لمرزاق كيف أنه تشاجر مع أحدهم وضربه بسكين، معتقدا أنه سبب له جرحا بسيطا، إلا أنه قتله، فقضى ثماني سنوات سجنا في السجن، وسنوات أخرى في الجيش الفرنسي يحارب الألمان، كان قويا وسندا كبيرا لعمي بوعلام، وقد توفي الاثنان بعد الاستقلال. في هذا السياق، أكد مرزاق أهمية مخاطبة المسنين واعتبره درسا يجب أن نتعلم منه، مضيفا أن لغتهم قد تبدو خاصة، وتصرفاتهم خارجة عن المنطق أو دائرة الزمن الذي نتحرك فيه، وهنا بالذات يكمن الخطأ الذي نرتكبه في حقهم حينما نتجاهلهم. 

وأخيرا جاء الفرج 

وأخيرا سمح لعمي بوعلام بالتحرك كيفما شاء عبر رسالة قرأها له مرزاق، وهكذا توجه إلى المرسى لاستعادة عمله، بمرافقة الثلاثي الشجاع، والتقى بزملائه السابقين الذين ألقوا عليه التحية، وتعجبوا لكونه خرج حيا من سجن "لامبيز"، وهو سجن رطب معتم يموت فيه الرجال جوعا أو خنقا أو تحت طائلة التيفوس، وغيره من الأوبئة. 

عمي بوعلام صديق الأطفال 

أصبح عمي علي صديق الأطفال، ومن بينهم مرزاق، فحين يغيب يتحرك الأطفال في مختلف جهات الحي وحينما يعود، يتبعونه حيثما جال وصال، والجولة الأولى كانت في جبل كوكو المواجه لحي عين الباردة، حيث تبين لمرزاق أن المدينة البحرية بدت من جبل كوكو، وكأنها تتحدى البحر كما أدرك لأول مرة الامتداد الحقيقي للبحر، رغم أنه سمع الكثير عنه بحكم ما قاله له والده البحار، علاوة على استصغاره للحي وهو يراه من أعلى قمة الجبل.

وفي حين كانت الجولة الثانية في حديقة الحيوانات، بينما كانت الجولة الثالثة إلى سيدي بحرون، أي إلى البحر، حيث التقى بوعلام والأطفال بالعجوز مريم التي تشتغل عرافة، وكانت تطلب من النساء اللواتي قدمن إليها سواء للزواج أو الإنجاب بالدخول إلى البحر المجاور لطرد النحس، والرابعة حينما أخذهم إلى القصبة وأعلن توبته هناك من معاقرة الخمر. 

عنصرية الأوروبيين وسماحة بعضهم 

حكى مرزاق عن الأوربيين الذين كانوا يعيشون في حي عين الباردة، وقال إنهم أقرب إلى عالم الأرياف، مثل السيد مارتيناز الاسكافي المحب للأطفال وزيرور المالطي العنصري الذي كان حين خلعه لبذلة ساعي البريد، يعود إلى أصوله الريفية، أيضا فابياني الإيطالي الذي كان يهبط إلى قاع البحر بلباس خاص، وكان يحب الجزائريين، وفي مرة من المرات اصطحب عمي بوعلام ومرزاق في خرجة بحرية، حيث أدرك شساعة بلدنا.

في المقابل، سلط الكاتب الضوء على الاختلافات التي كانت تفصل بين الجزائريين والأوربيين في اللغة والسلوك والفقر والمسكن وغيرها، مما نما الأحاسيس الوطنية في صدور الأطفال، ومن بينهم مرزاق. 

ميلاد الوعي بإمكانية النصر على المستعمر 

مع انهزام فرنسا في معركة ديان بيان فو بالفيتنام، اجتاح شعور جديد الجزائريين، ومن بينهم عمي بوعلام الذي التجأ إلى الشيخ جلطي لمعرفة الأخبار، وحين أدرك بنصر الفيتناميين عزف من جديد مقطع البريفو، أما مرزاق فقد فكر في تسجيل أحاسيسه في مقاطع موسيقية، فهل استطاع فعل ذلك؟. وجاء خبر ثان عن جبال الأوراس وما يحدث فيها من ثورة، وتغير الجميع حتى المدن شهدها التغيير، وإن لم يظهر على العلن، ومن ثمة ظهرت طوبوغرافية جديدة من خلال رسو سفن ضخمة على المرسى، ونزول عساكر منها. 

التحاق عين الباردة بالركب 

وقعت عملية فدائية في عين الباردة، بعدها اقتاد المظليون عميروش ولم يظهر له أثر، وألقي القبض على عمي بوعلام عام 1957، وحُكم عليه بالسجن ولم يخرج منه إلا بعد الاستقلال، وخرج منه مريضا ومن ثمة مات وترك إرثه المتمكن في آلة القنبري وقيثارة، جلبها من إسبانيا لمرزاق بقطاش، الذي اضطر إلى تخليه عن القيثارة لابن عمي بوعلام. 

تخليد بالكلمات بعد عجز موسيقي 

قرر بقطاش أن يتخلى عن دراسة تاريخ مدينته البحرية والتنقيب عن آثارها وترميم معالمها بالجامعة، واختار طريق الكتابة للتعبير عن مدينته، بعد أن عجز عن فعل ذلك بواسطة الموسيقى، وكتب عن حزنه لتدهور مدينته البحرية الذي أرجعه إلى فعل المسؤولين السياسيين، الذين كانوا يعيشون في الجبال والأرياف، ثم وجدوا أنفسهم على رأس هذه المدينة الأخطبوطية، فلم يحسنوا التصرف بتاتا، وكانت النتيجة ضياع مدينة سيدي عبد الرحمن، وأضاف أنه حزين أيضا على وضع تسميات لقيطة على بعض الشوارع، إلا أن ذكرى هذه المدينة، كما كانت في مخيلة مرزاق، بقيت حية، وهو يعمل على بناء مدينته وفقا لرؤية فنية في المقام الأول، وامتنع عن طرح هذا السؤال "متى ينتهي هذا العمل الفني؟".