ياسين بن عبيد في ندوة بدار السلام:

حَذَرُ الصوفية الأوائل من الكتابة.. فطنة

حَذَرُ الصوفية الأوائل من الكتابة.. فطنة
البروفسور ياسين بن عبيد
  • القراءات: 479
لطيفة داريب لطيفة داريب

مواصلة منها في تنظيم نشاطاتها، بمناسبة الاحتفاء بشهر التراث، احتضنت "دار السلام" بمقرها الكائن في القصبة، أول أمس، ندوة بعنوان "موقع الكتابة في التراث الصوفي"، نشطها البروفسور ياسين بن عبيد، وأدارها الدكتور عصام طوالبي، ضمن  معرض "معنى وجوهر، المداد، القلم والنقطة".

اعتبر أستاذ الأدب بجامعة سطيف، أن العلاقة بين التقليد الصوفي والكتابة، موضوع قديم لم يتم الفصل فيه إلى حد الساعة، وقد تعرض للنقد من طرف خصوم الصوفية، الذين قدموا قراءات خاطئة حوله. وأضاف أن الصوفية في بداياتها الأولى، رافقها شيء من الغموض وسوء الفهم، متعلق أساسا بمسألة الكتابة، وقد طرح البعض سؤالا مهما، وهو "لماذا لم يكتب الصوفية الأوائل تراثهم وإنتاجهم الفكري؟" وكذا سؤال ثان، وهو "لماذا لم يترجموا حضورهم بأوسع معانيه عن طريق الكتابة؟"، وتابع أنه في مرحلة من مراحل تاريخ الثقافة الإسلامية، نشأ التدوين، أي الكتابة، قصد إيقاع الإنتاج الفكري في سياق تاريخي، ثم نقله إلى الأجيال الآتية، وهذا بعد مراحل من الثقافة الشفوية، بيد أن الصوفية نشأت منشأ ضيقا من حيث الحجم، وكانت الروح الصوفية تنتقل مشافهة، ولم تكن تحتاج إلى الكتابة.

هنا توقف البروفسور وتحدث عن شك البعض في اضمحلال علم والرصيد المعرفي للصوفية، بسبب نفورهم من الكتابة، ليؤكد عكس ذلك تماما، إذ عاصر أوائل الصوفية مرحلة التدوين وعُرف عن الكثير منهم العلم في شتى التخصصات، لكنهم لم يلجأوا إلى الحرف وأداروا ظهورهم للمعرفة وانغمسوا في الروحانيات.

واعتبر بن عبيد أن عدم إصدار الصوفية لكتب، رغم خصوبة الحياة الصوفية وعمقها وتأثيرها على المحيط، مرده الابتعاد عن هذا الفعل الفيزيائي، الذي قد يبعدهم عن مهامهم المتمثلة في انشغالهم بالخالق. أي الوصول إلى الحق تبارك الله تعالى لا غير. وقدم المحاضر مثالا بالشيخ العلوي الذي قبل أن يلتحق بمدرسة "سيدي حمو البوزيدي"، طُلب منه أن يتخلى عن علمه وعن الدروس التي كان يحضرها في المساجد والاهتمام فقط بالتوحيد، فاستعصى عليه الأمر، لكنه رضي به ليعود إلى العلم، بعد أن ترسخت فيه مبادئ الصوفية، فكان تركه للمعرفة مؤقتا، والغرض منه تنزيه نزعة النفس في الرغبة بالظهور وتعاطي الأشياء، ليعود بعدها بلغة أخرى، ونسق آخر، وتأثير أكبر على هذا العالم، يضيف المحاضر.

وتابع مرى أخرى، أن العلم والصيت الذي وصل إليه الشيخ العلوي، هو بركة امتثاله لأمر شيخه، مؤكدا التصاق روحه بروح الشيخ العلوي، الذي يجله كثيرا، حتى أنه يشعر بأن روحه تطوف حول مكان تنظيم هذه المحاضرة.

ودائما عن قلة تأليف الصوفية لكتبهم، قال بن عبيد، إن خطاب الصوفية واسع، وأنه ليس شرطا أن يكون مكتوبا، بل من الضروري فقط أن يتلقاه من خُلق له، مشيرا إلى الصوفي عبد العزيز دباغ الذي لم تطأ قدماه المدرسة، لكنه أملى على مريده كتابه المدهش الإبريز، الذي تناول فيه أساسا علاقة الإنسان بربه. أما جلال الدين الرومي، فقد عُرف عنه ديوانه المشكل من 40 ألف بيت، لكنه لم يكتبه مباشرة، بل دُوِّن عنه.

ونوه المحاضر بفطنة الصوفية الأوائل في مسألة احتواء الكتابة، وما نموذج الحلاج إلا دليل على ذلك، فقد تعرض لمحاكمة وقطعت أجزاء من جسده، وقد عُرضت عليه كتابات قيل إنها نابعة من كتبه، لكن الأمر غير صحيح، ليتعرض إلى أبشع قتلة لا تمت لأحكام الشريعة بصلة.

في هذا السياق، قال ياسين بن عبيد، إن خصوم الصوفية بدلا من النظر إلى معاني الصوفية، يبحثون في معاني الحروف ومحاكمة الناس بما لا يقتضيه شرع الله وأعراف الناس. ليؤكد من جديد، أن الصوفية علم دقيق إلى درجة لا يمكن ترجمته بالكلمات، كما أن الكتابة فعل منته وعلى سالك الطريق أن يختار المنابع الحية، حتى تلك التي لم تُدون.

وأشار إلى حذر الصوفية الأوائل من وقوع كلماتهم مكتوبة أو مشفوهة في وعاء غير مناسب، ليتساءل كيف فطنوا للتأويلات الخاطئة لكلامهم منذ البدايات؟ نعم لم يكتبوا لأنهم شعروا بالمسؤولية أمام الله، وخشوا من أن يأخذ ضعاف النفوس ما يكتبون، رغم أنهم لو كتبوا لطغت كتبهم على كل العلوم، لما فيها من عذوبة، لكن كل الكتابات والعلوم لا تصل إلى مستوى الجانب الروحي.