"بين وبين" لمحمد لخضر تاتي
حياة في منطقة وسطى
- 255
د. مالك
يذهب فيلم "بين وبين" للمخرج محمد لخضر تاتي إلى ما هو أبعد من متابعة عالم التهريب من زاويته القانونية أو الأمنية. فهو يقترب من هذا العالم بوصفه مساحة هشّة يختبر فيها الإنسان علاقته بالمكان والزمن وبالحدود التي ترسمها الجغرافيا حينًا، وتولد في داخله حينًا آخر. فالحدود هنا ليست فاصلاً جغرافياً بقدر ما هي حالة شعورية تتقاطع فيها الرغبة في الانتماء مع الحاجة إلى الابتعاد.
يختار الفيلم (100 دقيقة، إنتاج 2025) منذ بدايته، أن يضع المشاهد في فضاء تتداخل فيه الأزمنة وتتساوى فيه الضفاف. الأوراس بجبالها ووديانها وحجارتها ليست مجرّد مسرح للأحداث، بل قوّة تفرض إيقاعها على الشخصيات، وتجعلها تتحرّك في عالم معلّق لا يمنح اليقين إلاّ لماماً. الشخصيات نفسها تبدو كما لو أنّها تبحث عن موقع لا تصل إليه، وتتنقل بين مسارات متقاطعة لا تخلو من التردّد والحيرة.
لا يقدّم الفيلم المهرّبين كأبطال أو كخارجين عن القانون، بل كبشر يعيشون تحت ضغط يومي، يصارعون ضيق العيش وثقل الخيارات. يقترب العمل منهم من الداخل، من تفاصيلهم الصغيرة التي تكشف رغبتهم في النجاة، ومحاولاتهم المستمرة لتوسيع فضاء الحياة الضيق الذي وجدوا أنفسهم فيه. وهي شخصيات تعيش التناقض نفسه، قسوة الظرف ورهافة الإحساس، السعي إلى الحركة والخوف من السقوط.
يحوّل تاتي المكان إلى جسد نابض يؤثّر في الشخصيات ولا يكتفي بأن يحتضنها. الأماكن الترابية، المنحدرات، عتمة الليل، وحتى المساحات البيضاء الواسعة، تتحوّل إلى لغة صامتة، تطرح أسئلتها الخاصة على الإنسان، وتعيد اختبار دوافعه. بينما يتقدّم الزمن داخل الفيلم بطريقة تضرب التسلسل المعتاد، فيصبح أقرب إلى ذاكرة متقطعة تتداخل فيها اللحظات وتتكرّر فيها الظلال دون ترتيب واضح.
يواكب الأداء التمثيلي هذا البناء. سليم كشيوش يمنح دوره عمقاً داخلياً يشي بما يخفيه أكثر مما يعلنه. سليمان دازي يقدّم شخصية تبدو صلبة في ظاهرها لكنها تتشقق كلما اقتربت من صمتها الخاص. أما هناء منصور فتدخل العالم بحس اكتشاف يجعل خطواتها الأولى جزءاً من سردية المكان نفسه.
وتمنح شخصية ياسمين (هناء منصور) طبقة إضافية لهذا العالم المعلّق، فهي ليست محور الحكاية بقدر ما تمثّل ظلاً يمرّ فوق حياة الآخرين ليترك أثراً لا يكتمل شرحه. تظهر ياسمين ثم تتوارى ثم تعود فجأة، كما لو أنّ وجودها نفسه جزء من ارتباك الزمن داخل الفيلم. حضورها المتقطع يشبه نبضاً متردّداً في الحكاية، يفتح باباً على حكاية كان يمكن أن تكون مركزية لكنّها تظلّ في الهامش، تماماً كما يعيش المهربون حياتهم في الهامش.
هذا الأسلوب يمتدّ إلى شخصيات أخرى تظهر لوهلة لتصنع توتراً أو معنى سريعاً، ثم تختفي قبل أن نفهم موقعها في السرد، لتعود لاحقاً في لحظة غير متوقّعة أو لا تعود أبداً. هذه العلاقات المبتورة ليست خللاً بقدر ما هي جزء من منطق الفيلم نفسه، إذ يختبر تاتي من خلالها هشاشة الوجود في فضاء تتحرّك فيه الشخصيات بلا مسارات مضمونة، وتتشكّل هوياتها بقدر ما تتفكّك.
بعد العرض، تحدّث المخرج عن تجربته التي تنقّلت بين الروائي والوثائقي جعلته يقف دائماً في مساحة رمادية. فالوثائقي منحه حرية القراءة، لكنّه سمح أيضاً بتدخّل الخيال، لذلك اتّجه نحو الروائي حين بدأ يفكّر في هذا الفيلم، خاصة بعد لقاءات جمعته بمهرّبين عاشوا تفاصيل معلّقة بين الخطر والعادة، بين الرغبة في الاستمرار والخوف من النهاية. ويعتبر أنّ التهريب نفسه يحمل في الذاكرة الجزائرية صدى تاريخياً متّصلاً بفترة حرب التحرير، حيث تحوّل حينها إلى وسيلة دعم، ما يجعل الحاضر امتداداً لتلك المفارقات القديمة.
بعد اختتام جولته في المهرجانات، يستعد "بين وبين" للظهور في القاعات السينمائية عبر الجزائر أولاً ثم في دول أخرى، مع فتح باب التعاون مع الموزّعين والشركاء الثقافيين لضمان وصوله إلى جمهور أوسع. ويؤكد تأتي أن ما يطمح إليه هو أن يجد المشاهدون في الفيلم فرصة لطرح أسئلة جديدة حول علاقتهم بالأمكنة التي يعيشون فيها، وبالحدود التي يرثونها أو يصنعونها بأنفسهم، فكل عرض جديد يمنح العمل روحاً مختلفة ويعيد إطلاق الحوار الذي يربط بين الواقع والخيال، وبين التاريخ والإنسان.