«التاريخ الإعلامي»

حوارات رفيقين في عوالم المهنة

حوارات رفيقين في عوالم المهنة
  • القراءات: 659
ق.ث ق.ث

في تاريخ 27 مارس الماضي، رحل الكاتب وعضو الأكاديمية الفرنسية ووزير الفرانكفونية الأسبق، وقبل كل شيء، أحد أبرز الوجوه الإعلامية التلفزيونية والإذاعية الفرنسية؛ ألان ديكو الذي شاهده وسمعه الفرنسيون على مدى نصف قرن من الزمن، وهو يقدّم لهم حكايات التاريخ بطريقة مبسّطة ومشوّقة. كان من أقرب الأصدقاء لألان ديكو المؤرّخ والكاتب، وصاحب العديد من المؤلفات ومدير مجلة «ديباــ النقاش» الفكرية الشهيرة وعضو الأكاديمية الفرنسية أيضاً بيير نورا الذي كان هو الذي ألقى كلمة الوداع الأخيرة للراحل في مقبرة بير لا شيز بباريس، وكنوع من تكريم الراحل ألان ديكو، قام صديقه الكاتب والمؤرخ بيير نورا - وهو ناشر أيضا- بإصدار نقاش طويل كان قد دار بينهما، وهما صديقان حميمان، لكن مساريهما الفكريين مختلفان، في كتاب صدر قبل أسابيع قليلة تحت عنوان «التاريخ الإعلامي».

من الصفات التي يؤكّد عليها الكاتب والمؤرّخ بيير نورا في مقدّمة هذا العمل الذي جاء في 80 صفحة وصدر عن «غاليمار»، أن صديقه ألان ديكو كان يمتلك موهبة كبيرة جعلته «استثنائيا، بل وفريدا «في قدرته على جعل الماضي «قريبا من الفهم»، ويضيف أنه كان بهذا المعنى قد أسّس هو نفسه لطريقة في كتابة «التاريخ الإعلامي»، كما يقول عنوان هذا الكتاب، والمقصود بذلك بتحديد أكثر؛ دور «تقديم التاريخ عبر وسائل الإعلام»، وبالتحديد أكثر عبر شاشات التلفزيون.

ولا يتردد بيير نورا في التأكيد أن ألان ديكو كان الرجل الذي «تجسّد فيه التاريخ بالنسبة للكثير من الفرنسيين»، مما يجعله جديرا بنيل توصيف «المعلّم الوطني» لهذا الفرع من العلوم، وعلى مثل هذه الخلفية أراد بيير نورا، كما يشير، أن يقدّم صديقه وشهادته عن «أسرار التاريخ الإعلامي»، وكان الحوار قد جرى بينهما قبل عقود، لكن راهنيته لا تزال قائمة و«طريّة»، حسبما يتم التعبير بأشكال مختلفة.

وفي أحد الأسئلة، وتعليقا على رأي أصدره ألان ديكو عمّا أسماه «المسؤولية التي تقع على عاتق معدّ البرامج التلفزيونية»، يشير بيير نورا إلى وجود فرق كبير بين «الحديث أمام 30 طالبا» وبين «الحديث أمام عدّة ملايين من الأشخاص» عبر شاشة التلفزيون، والإشارة إلى أنّه في هذه الحالة الثانية «ليس من المسموح الخطأ»، والمسؤولية تكمن هنا في المساهمة بصناعة الرأي العام.

ما يؤكّده ألان ديكو في هذا الصدد هو أنه «من الواضح أن شخصيّة المؤرّخ الإعلامي لها دورها، فهو مطالب بالشرح والتفسير»، وهنا يغدو من المطلوب أيضا أن يوفّق بين دقّة المعلومات التي يقدّمها وبين ميوله ومواقفه الشخصيّة من تلك المعلومات، وعلى خلفية التكوين التاريخي لذهنيته «التاريخية»، لكن يبقى المعيار الأكثر أهميّة بالنسبة لـ«التاريخ الإعلامي» متمثّلا كما يرى ألان ديكو، من خلال تجربته التلفزيونية والإذاعية على مدى عقود عديدة، في «التفاعل» الذي تتم «قراءته» في تقديمه من قبل الذين يتوجّه لهم عبر هذه الوسيلة أو تلك من وسائل الإعلام.

بهذا المعنى أيضا، يغدو من يقوم بمهمة «التاريخ الإعلامي» بمثابة «معلّق غير حيادي» على الأحداث التي يتعرض لها، نقرأ من إحدى إجاباته ما مفاده «إذا كان المعنيون يشاهدونني أو يستمعون لي منذ مدّة طويلة، فإن ذلك يعود إلى أنني شخصياً معني بالمواضيع التي أعالجها»ـ ويضيف «في كل حدث من أحداث التاريخ التي أتعرّض لها، هناك شخصيات أحبّها وأخرى لا أحبّها، إنني لا أستطيع تمويه ذلك. وحتى إذا لم أقل ذلك، فإن الجمهور يرى ذلك ويحسّه. ويبدو أن ذلك يرتسم على وجهي، حيث أن ملامحي تنقبض عندما أتحدث عن شخصية تاريخية لا أحبها».

يعبر ألان ديكو بأشكال مختلفة عن ضرورة أن يتحلى القيام بالتعرض لـ«التاريخ الإعلامي» بأعلى قدر ممكن من المسؤولية، وهو يفرّق بهذا الصدد بين «الموضوعية» و«الاستقامة»، ويروي أنه لم يخفِ تعاطفه مع «ساكو وفنزيتي»، العاملين الإيطاليين الذين حُكم عليهما ظلما بالإعدام، لكنه في المقابل حرص على أن يقدّم الدكتاتور الإيطالي «موسوليني أمام الموت». كما حدث «دون التعرّض لدكتاتوريته»، حيث «جرى سجنه لليلة كاملة في مكتب أحد رجال الجمارك في الليلة الأخيرة قبل إعدامه».

نقرأ في هذا الصدد؛ «أمضى موسوليني بين خمس إلى ست ساعات وهو يدافع عن سياسته أمام رجل الجمارك الذي كان الوحيد الذي يستمع له، كان ذلك الموقف مأساويا ومثيرا للمشاعر.. كان مؤثرا ذلك الحال لشخص كان العالم كلّه ينتظر أيّة كلمة ينطق بها. وكان في ذلك الوضع جالساً على كرسي من القش ويلقي خطابه الأخير أمام موظف جمارك».

تلك كانت رؤية ألان ديكو لما تنبغي أن تكون عليه «الاستقامة» و«المسؤولية» في دور «التاريخ الإعلامي»، والتأكيد بكل الأحوال على ضرورة المحافظة على «الحسّ الإنساني».

للتذكير، ألان ديكو، كاتب ومؤرّخ وأحد أبرز الوجوه الإعلامية في فرنسا على مدى نصف قرن من الزمن، قدّم خلالها مئات البرامج عن أحداث التاريخ الماضي، كان عضوا في الأكاديمية الفرنسية من مؤلفاته «أسرار كبرى وألغاز كبرى» و«ملفات سريّة جديدة للتاريخ»...الخ، أما بيير نورا فكاتب ومؤرّخ وناشر وعضو في الأكاديمية الفرنسية، مدير مجلة «ديبا ــ النقاش». من مؤلفاته «فرنسيو الجزائر» و«الحاضر والأمّة والذاكرة»...الخ.

يبين الكتاب وجود فرق كبير بين كتابة التاريخ، بالاعتماد على الوثائق والأراشيف وتقديمها كتابة فيما بعد للقرّاء دون الظهور «المرئي أو المسموع» أمامهم، وبين التقديم المرئي أو المسموع للتاريخ، حيث الأمر مختلف تماما بالنسبة لـ«التاريخ الإعلامي»، هنا تلعب الصورة وطريقة العرض، حتى التعابير، دورا مهما، إلى جانب تقديم المعلومات بأكبر قدر ممكن من «الاستقامة الفكرية».