احتضنهما المسرح الجهوي لوهران

"حمّام بغدادي" و"الهايشة" تمتعان جمهور الباهية

"حمّام بغدادي" و"الهايشة" تمتعان جمهور الباهية
  • القراءات: 1108
خ. نافع خ. نافع

سافر الجمهور الوهراني، مؤخرا، إلى عمق الجرح العراقي من خلال عرض آخر إنتاج مسرحي للمخرج العراقي جواد الأسدي المعنون بـ "حمام بغدادي". كما استمتع بالعرض الجديد للمسرح الوطني الجزائري "الهايشة"، الذي عبّر عن انسلاخ الإنسان من إنسانيته، وتحوّله إلى حيوان تتحكم فيه غريزته.

وتتناول فصول العمل المسرحي "حمام بغدادي"، حكاية أخوين عراقيين، هما مجيد وحميد، يمثلان نموذجين للشعب العراقي في اختلاف وجهات نظر أبنائه للاحتلال الأمريكي، وكذا أسلوب التعامل معه، وهما ضحيتان رغم اختلاف الجاني: فالأول ضحية حاكم مستبد، والثاني ضحية محتل، كما أنهما يختلفان في كل شيء، إلا أن الحزن يبقى العامل المشترك الذي يجمع بينهما، بل وبين كل أطياف الشعب العراقي.

كما يسلّط العرض الضوء على شريحة سائقي الحافلات، الذين يعملون بين عمّان وبغداد، ويهدف إلى تشريح معيشة هذه الشريحة، ورصد تحولاتها وتغيراتها في ظرف جحيمي يعيشه العراق، من خلال واقع حافل بالألم.

ويتناول العرض الواقع العراقي بعد الاحتلال بكل تداعياته على الحياة العامة، ويبرز حالة التناقض التي تعتري هذا الواقع من خلال منظورين مختلفين تجاه الاحتلال. فمجيد، الأخ الأكبر، شخص براغماتي انتهازي، صيّاد فرص، يتعاون مع الشيطان من أجل كسب رزقه، عمل مع النظام السابق، ويعمل الآن مع "الأميركان"، واضعا سيارته في خدمة نقل المؤن والعتاد من وإلى السجون. ويرى في الاحتلال صفقة رابحة لإنعاش تجارته وأعماله بعد ضياع أحلامه في التعلم ورغبته في أن يصبح مغنيا مشهورا، وتوجهه إلى الملذات والنساء.

في حين أن حميد، الأخ الأصغر، شخص بسيط، مشوّش الرأس جراء ما عاشه من هول في العهد السابق، فيظل أسير خوف ورعب سيطرا عليه بعد أن شهد أحداثا دموية رسخت في ذاكرته، وشكّلت لديه نوعا من عقدة الذنب. فقد شارك حميد بصورة قسرية، في مجازر جماعية تحت وطأة التهديد والقتل، وهو أيضا ضحية جشع واستغلال شقيقه الأكبر الذي يغتصب حقوقه، ويتخلى عن أسرته إلى درجة عدم مشاركته في تشييع جنازة والده، أو حتى زيارة والدته المسنّة.

وسعى جواد الأسدي في مقاربته الدرامية، لكشف ما يعتري هاتين الشخصيتين قبل الاحتلال وبعده، ونبش ماضيهما، وإضاءة مناطق معتّمة في باطنيهما، ومن خلالهما النفس الإنسانية العراقية بين حنينها إلى الماضي، وانخراطها في واقع لا يمتّ إلى تاريخها الحضاري بصلة، وبين انجرافها إلى مستقبل مجهول.

في المشهد الأول من العرض يدور الحدث في حمّام، حيث يشير الفضاء إلى الخراب الذي انتهى إليه العراق بعد الاحتلال، وفيه يتغلغل الأسدي إلى الماضي بكل أحداثه ومشاهده الجميلة والمحزنة في آن معا، ويكشف عن مكونات كل شخصية على حدة، وعن الصراع الفكري بينهما.

وفي المشهد الثاني ينتقل العرض إلى فضاء يمثّل الحدود الفاصلة بين عمّان وبغداد، ويجري فيه التعبير عن حالة الفساد والانتخابات السياسية الوهمية، حيث الجثث العابرة للحدود، والذل والهوان الذي يتعرض له المواطن العراقي إلى درجة أن يتعرض حميد لكل أشكال التذلل للقوة الأمريكية المسيطرة على الحدود، لإدخال رجل ملياردير ينوي ترشيح نفسه للانتخابات، بهدف الحصول على مكسب مادي. ومع ذلك يموت الملياردير على الحدود، لتتحول هذه الجثّة إلى كابوس يقزّز حميد ويثير أعصاب مجيد، فيطلب الثاني من الأول أن يذهب إلى المجنّدة الأمريكية لإقناعها بأنهما يحملان جثّة مرموقة، مرشّحة بقوّة للانتخابات، إلاّ أن الأول يعلن رفضه الفكرة وتقزّزه من المجنّدة، وبعد نزاع عنيف بينهما يقرّر الأخ الأصغر العودة إلى عمّان، بينما يهمّ الأكبر بنبش الجثّة التي تنفجر فيه.

أما في المشهد الثالث فيدور الحدث في فضاء المشهد الأول نفسه، وفيه يحاول حميد التطهر من العمى الذي ربما سيقوده إلى البصيرة. ويُختتم العرض بمشهد تلاشي الشخصيتين، موظفا التشكيل البصري عبر لوحة فنية للفنان التشكيلي العراقي جبر علوان، وتركيب صورة سينمائية لتصاعد البخار في الحمّام.

للإشارة، ركز المخرج جواد الأسدي في عرضه، على التجريب في  السينوغرافيا والمؤثرات الضوئية والصوتية والأداء، لتأكيد أن عرضه يسعى لتأسيس منصة جمالية سينوغرافية عبر مناخ حمام بغدادي، وتكوين علاقة رمزية بين العري في المساحة وعري النفوس ذات الأجساد المتفجرة، حيث يشكّل الحمام رمزا لحمّام الدم الذي يعيشه العراق تحت الاحتلال في جحيم بغداد المفتوح. 

ونالت المسرحية إعجاب الجمهور الذي حضر بقوة؛ حيث عادت به إلى زمن عمالقة هذا الفن ببلادنا، على غرار المرحوم عبد القادر علولة في مسرحياته الخالدة، منها "الخبزة" و"الأجواد" وغيرهما، وهو الانطباع الذي خرج به الكثير من الجمهور عند انتهاء العرض.

كما عاش المسرح الجهوي عبد القادر علولة أيضا ولمدة ساعة ونصف ساعة من الزمن، جوا من المتعة والفرجة، صنعه العرض المسرحي الجديد للمسرح الوطني الجزائري "الهايشة"، وأثارت هذه المسرحية، فضول الجمهور الوهراني المحب للمسرح، الذي حضر بقوة لمتابعة فصولها، التي حاول المخرج إسقاطها على ما يجري بواقعنا من صفات ذميمة تقرّب الإنسان إلى فطرة الحيوان وتبعده عن إنسانيته السمحة الرحيمة.

وتدور أحداث المسرحية داخل مقهى، ومع تطور العرض والدخول في الصراع والمناجاة عما يحدث بالمدينة من تغيرات. ومن اشتداد العنف يُكتشف أن "الهايشة" ما هي إلا إنسان قد حولته الغريزة إلى حيوان لا يعترف بالقيم، مثل الصداقة والوفاء.

كما تسلّط المسرحية الضوء على شخصية البشير، وهو موظف بسيط لم يقم بدراسات عليا تؤهله لأن يكون مرموقا في المجتمع، فقام بعزل نفسه عن الناس، خاصة أمام تراجع القيم في المجتمع، فلم يعد يستطيع تحمّل طباع الناس كالنفاق والكذب، والتي جرّدتهم من الخصائل الإنسانية كالإخلاص، الوفاء، الطيبة والصدق، ووجد متنفسه الوحيد في شرب للخمر للتخفيف من آلام عزلته. وتخلى صديق بشير عنه وحتى حبيبته سارت في نفس النهج. أبعد من ذلك، فقد تحولوا تدريجيا إلى كائنات حيوانية، حيث تفشت هذه الظاهرة وانتشرت بصورة سريعة إلى درجة أصبحت "الصفات الحيوانية" أمرا طبيعيا، بل وجد البعض أنها تدخل في أسس التطور والرقي.

للإشارة، تقمّص شخصيات هذا العمل كل من الممثل طارق بوعرعارة، وائل بوزيدة، عديلة سوالم، عبد الكريم بن خرف الله، نضال، عبد الرحمان إيكاريوان، ليلى توشي، كريم جنان، رضوان مرابط، فائزة بيبش، يزيد صحراوي وعلي ثامرن. كما أدى أدوار الراقصين كل من حسناء صوالح، صوريا محمودي، حاج أحمد، يحيى زكريا، أسامة شرياف، الهادي بن عبو والطاهر حفصة.

وتُعد هذه المسرحية اقتباسا عن مسرحية "الرينوسيروس" للكاتب "يوجين يونيسكو". وعادت الرؤية الإخراجية لمحمد شرشال، كما تم توظيف الكوريغرافيا التي أبدع في تصميمها سليمان حابس في هذا العرض، والتي زادته فرجة وجمالا، أما السينوغرافيا فعادت ليحيى عبد المالك، والتي كانت موظفة بشكل محكم من الديكور إلى لباس الممثلين. وعادت الإضاءة لفريدريك دوربان. وبخصوص التأليف الموسيقي والمؤثرات الصوتية فكانت من عبد القادر صوفي.