الخبير الجيواستراتيجي تقية يحاضر حول "الثقافة في عالم متغيّر":
حكمة القيادة الجزائرية جنّبت الجزائر الأهوال

- 998

قدّم أمس الخبير الجيوـ استراتيجي، الحواس تقية بقصر الثقافة، محاضرة حول "الثقافة في عالم متغيّر"، شدّت عددا من المسؤولين السامين والباحثين باعتبارها قراءة معمّقة في التحوّلات الدولية السارية وفي موقع الجزائر في خضم سجالاتها، متوقّفا عند الدور الهام الذي تلعبه الثقافة لصون الهوية وذلك في إطار الدولة الوطنية حتى لا يتغلغل الشقاق ولا تنهار العوامل الموحّدة للشعب والأمة والتي تبقى الهدف الرئيس لزعزعة الاستقرار.
تحدّث الضيف (مسؤول على مستوى مركز الدراسات الجيوـ سياسية حول المشرق العربي بالدوحة) في ندوته عن مسألة الهويات ودورها في الصراع الدولي الحاصل خاصة بالمنطقة العربية، علما أنّ مثل هذا الصراع موجود ومنذ زمن بأعتى الديمقراطيات والدول الغربية بما فيها بريطانيا (اسكتلندا) وفرنسا (الكورس) وإسبانيا (كاتالونيا)، وسبب تذمّر هذه الهويات الانفصالية ليس لأجل الحصول على امتيازات أو أنّها تعاني القهر، وإنّما لدواع ثقافية وتاريخية محضة، لذلك نجد أنّ مثل هذه الأقاليم غالبا ما تطالب بالانفصال عن الدولة المركزية .
بالنسبة للعالم العربي، استطاعت الدولة الوطنية أن تحتوي كلّ الخصوصيات والهويات وأن تبني روابط مشتركة تتجاوز الحدود الضيقة لكن بعد سقوط هذه الدول الوطنية في ليبيا والعراق وغيرها، تراجع عامل الوحدة وأصبح العراقي مثلا إيرانيا بحكم مذهبه الشيعي، وأصبح هناك السني والكردي وأصبحت القبيلة حاضرة، لكن عامل اللغة الواحدة والوطن المشترك غير أولوي في موضوع الإجماع الوطني، وقس على ذلك كل الدول التي مستها هذه الفوضى.
يصف المحاضر الهوية بكلمة "نحن"، فهي الجامع الأوّل لكنها تتراجع مع الهزائم والصدامات وتضعف وتتهاوى أسسها التي تجمع المجموعات البشرية، لتحلّ بذلك كلمة "هم"، بمعنى أنّ كلّ مجموعة تنفصل عن الأخرى وتتصارع معها وتذهب كلّ واحدة تبحث عن الحماية والأمن من جهات خارج الدولة الوطنية، حتى ولو كانت هذه الجهات تمثّل خطرا وتهديدا للمجموعة في الآجال المتوسّطة والبعيدة.
أكّد المحاضر أنّ الهوية الوطنية الجامعة، تقوم على الرموز التي يشترك الجميع في بنائها منها العلم والرئيس والتاريخ وغيرها، فهذه الأدوات تحوّل المجموعات إلى كائن واحد يخضع لنفس المصير المشترك. وأعطى المحاضر نموذجا عن تركيا بعد الحرب العالمية الأولى وخسارتها فيها، مما انعكس على هويتها، ففكّت ارتباطها بالعربية وبالعالم الإسلامي واتّجهت لأوروبا ولم تعد العربية والإسلام مثلا روابط بين مجموعاتها العرقية واللغوية والمذهبية، كذلك الحال مثلا مع جنوب السودان الذي انفصل عن الشمال، واتّجه صوب المسيحية وهكذا.. وفي كلّ هذا يصبح رهان الثقافة أكبر في أن تحوّل المجموع إلى واحد تجنّبا للعنف.
يرى الخبير تقية أنّ انفلات الهويات ينتج عنه صعود الهويات التحتية التي تعوّض خلال هذا الانحطاط الهوية الوطنية، ومن هنا تتفشى المذاهب والأعراق والانتماءات الضيقة، ومعها تنهار الدول كما كان الحال في مأساة الربيع العربي ليبقى المصير مبهما والأهداف ضبابية، يضيع معها كلّ شيء بما في ذلك الحدود السياسية وحتى البسيط الذي تحقّق بعد فترة الاستقلال. أشار المحاضر إلى أنّ بعض العوامل ساهمت في تعزيز الهويات والتموقع على الذات بشكل مفرط، من ذلك التخوف من سلبيات العولمة ومن الثورة المعلوماتية، كونها تهدّد الهوية فبالغت المجموعات في الانغلاق على نفسها وتقديس خصوصياتها، ليست الجامعة بل الخاصة، وهنا دعا المتحدّث إلى ضرورة إعادة بناء الرموز الوطنية المشتركة وتعزيزها من أجل تفادي ضغط الهوية التحتية على الوطنية، وحتى لا تكون الأخيرة خانقة للأولى أي للهوية المحلية.
أثناء المناقشة، أكّد الخبير تقية، أنّه يمكن إيجاد تسويات لهذه القضية من ذلك ما جاء في مشروع الدستور الذي اقترحه الرئيس والمتعلّق مثلا بالاعتراف بالهوية الأمازيغية ضمن البعد الوطني وكثابت، لكن يبقى الحل المثالي مفقودا ليس فقط عندنا، بل في كلّ دول العالم، كما حثّ المحاضر على استغلال تاريخنا النيّر في بناء رموزنا الوطنية والدينية، بدل اعتماد الفترات المظلمة والسيئة، وعلينا أن نطوّع تاريخنا حسب ضروريات متغيّرات العالم لأنّنا شركاء معه ولسنا في جزيرة منعزلة نطبّق ما نشاء. في الأخير، ثمّن الخبير تقية حكمة الإرادة السياسية الجزائرية في الداخل والخارج، وهو الأمر الذي ضمن الأمن والاستقرار رغم اشتعال النيران في المنطقة، وقال "إنّ ثورة التحرير صهرت كلّ الهويات وتكاملت فيها كلّ المقومات لتتشكّل هوية وطنية واحدة يجد الجميع نفسه فيها، وبالتالي فإنّ تاريخنا أعطانا فرصة للاستثمار في الغد المشرق".
من جهة أخرى، لفت الضيف إلى خطورة لعب اليد الأجنبية في هذا التفتيت الممنهج، من خلال سياسة "فرق تسد" ليقضي طرف على طرف ثم يتدخّل الأجنبي كضابط، ثم يتنصّل من وعوده لأيّ طرف داخلي وعده، ويبسط سلطته الاستعمارية من جديد، وهو الأمر الذي يثبته الواقع العربي اليوم. ويؤكّد المحاضر أنّ لعبة القوى الأجنبية تهدف إلى هدم كلّ الأطراف وتأجيج كلّ مظاهر الاختلاف، كي تطغى على العوامل المشتركة وبالتالي زرع الفتنة. وقد أثنى على سياسة الجزائر المتمثّلة في التعامل مع الدول وليس المجموعات مما حماها من أن تكون ضحية للتدخّل وزرع الفوضى على ترابها الوطني رغم شساعته.