على هامش المهرجان الوطني للموسيقى و الأغنية الحضرية بعنابة
جلسات القهوة والحضرة تعيد الجمهور لأصالة التراث

- 164

ينبض قلب ساحة الثورة كل صباح بلقاء استثنائي تحت عنوان "قهوة الصباح"، حيث يلتقي الفن بالإبداع، وتُروى حكايات الموسيقى في جلسات دافئة تجمع الفنانين و الإعلاميين والمنظمين، وذلك في إطار فعاليات الطبعة السابعة عشر للمهرجان الثقافي الوطني للموسيقى والأغنية الحضرية.
"قهوة الصباح" ليست مجرّد فقرة ضمن البرنامج، بل مساحة حوارية حميمية تُسلّط الضوء على كواليس العروض، وتحمل في طياتها ذكريات الماضي الفني، وتفاصيل يومية عن المهرجان من نبض من يحيونه ويصنعون سحره. تفتح نوافذ الحديث بسلاسة صباح كل يوم، ليحكي الفنانون تجاربهم، لتتناول قضايا الفن الحضري في الجزائر ضمن أجواء ودية ومرحة تعكس روح المهرجان، القهوة هنا ليست مشروبا فقط، بل رمزا لجلسات الأصالة والدفء واللقاء الإبداعي. بدعوة مفتوحة لعشاق الفن والموسيقى، يشكّل هذا الموعد اليومي مساحة تواصل حقيقية بين الجمهور وصناع الحدث، وسط أجواء جزائرية خالصة، ونكهات حضرية تعكس تنوع المشهد الفني الوطني.
ليلة من سحر الحضرة
تلتقي أيضا أنغام الجنوب بنبض عنابة في مهرجان الموسيقى الحضرية في أمسية مبهرة من أمسيات الفن والطرب الأصيل، وشهد المسرح الجهوي "عزالدين مجوبي" بعنابة سهرة فنية موسيقية حضرية راقية، أحيتها كوكبة من الفنانين المتألقين ضمن فعاليات الطبعة السابعة عشر من المهرجان الثقافي الوطني للموسيقى والأغنية الحضرية لولاية عنابة.
جمهور عنابة العاشق للفن كان على موعد مع تنوّع موسيقي فريد جمع بين أصالة الجنوب وسحر النغمة الحضرية العنابية، والبداية كانت مع الفنان ياسين عاشوري، ابن مدينة عنابة، الذي أشعل المسرح بأدائه المتميز، جامعا بين الطرب العصري والأغنية الحضرية بنكهتها المحلية، حيث لامس بأدائه الرفيع مشاعر الجمهور وذكّره بأصالة المدينة وتاريخها الفني العريق.
تواصلت السهرة مع الثنائي الرائع زهوة كانوني وبوطرفة محمد كرم، حيث قدما معا ديو موسيقي ساحر مزج بين الحضور القوي والصوت الشجي، ليعيدا إلى الأذهان ذكريات الزمن الجميل ويمنحا الجمهور لحظات من الانسجام التام مع موسيقى حضرية تأبى الاندثار.
كان مسك الختام، فكان مع الفنان محبوب، القادم من أعماق ولاية الوادي ، حيث صعد إلى الخشبة حاملا نكهة الصحراء وأصوات الرمال، وقدم أداء صادقا نابضا بروح الجنوب، جعل القاعة تتفاعل بحرارة مع كل نغمة وكل كلمة، محبوب استطاع أن يجسد بتواضعه وصوته العذب لقاء الشمال بالجنوب، معبرا عن وحدة الثقافة الجزائرية وغناها المتنوع. السهرة كانت مزيجا فنيا ثريا جمع الأصالة بالتجديد، وشكلت محطة مضيئة ضمن فعاليات المهرجان، الذي يواصل تألقه سنة بعد سنة، محافظًا على رسالته في تثمين الأغنية الحضرية الجزائرية بكل ألوانها.
موعد مع المالوف
أحيا نجوم فن المالوف مؤخرا ليلة من الطرب الأصيل في قلب مدينة عنابة ، حيث شهد مسرح عز الدين مجوبي سهرة فنية مميزة، وذلك في إطار فعاليات الطبعة السابعة عشرة من المهرجان الثقافي الوطني للموسيقى والأغنية الحضرية، حيث اجتمع عشاق هذا الفن الأصيل في أمسية معبقة بالتراث و الأصالة، وذلك بمشاركة نخبة من ألمع نجوم هذا الفن الأصيل.
توافد الجمهور العنابي من مختلف الأعمار إلى قاعة المسرح، التي امتلأت عن آخرها، في مشهد يعكس مدى الرواج لهذا اللون الفني العريق، وبدت ملامح الترقب والشغف واضحة على وجوه الحاضرين، الذين لم يبخلوا بتصفيقهم الحار وتفاعلهم الكبير مع كل أداء فني، مما أضفى على السهرة طابعا احتفاليً ووجدانيا في آن.
استهل الفنان فيصل كاهية، ابن مدينة عنابة، السهرة بأداء مميز نقل من خلاله روح المدرسة العنابية في المالوف، بصوت أصيل وأداء متزن يعكس تمسكه بجذور التراث، مقترحا مقاطع من روائع المالوف التقليدي، قدمها بروح جديدة دون أن يفقدها طابعها الكلاسيكي، وسط تجاوب كبير من الجمهور الذي ردد معه بعض المقاطع بتأثر واضح.
أما الفنان سليم رفاس، فكان له حضور قوي على الخشبة، حيث أدى وصلات طربية مزجت بين الإحساس الصادق والمهارة في الأداء بصوته الحنون وتعبيره الفني المباشر ، وقد أعاد رفاس إحياء نماذج من المالوف العنابي بطابع معاصر، أثبت من خلاله أن هذا الفن لا يزال قادرا على مواكبة العصر دون أن يفرّط في أصالته.
اللحظة الأبرز في الأمسية كانت بلا شك مع الفنان سليم فرقاني، الذي مثل المدرسة القسنطينية بأبهى صورها، بأداء يفيض وقارا ومهارة، قاد فرقاني جمهوره في رحلة فنية ساحرة إلى عمق النغمة القسنطينية، ليؤكد مكانته كأحد أبرز رموز هذا الفن في الجزائر، وذلك من خلال صوته الرخيم وتمكنه من المقامات، عازفا على أوتار الذاكرة مانحا للحفل بعدا روحانيا دفع العديد من الحاضرين إلى الوقوف احتراما في نهاية وصلته، في مشهد مؤثر وذو دلالة فنية وإنسانية عميقة.
لم تكن السهرة مجرد عرض فني، بل تجربة ثقافية متكاملة أعادت للجمهور علاقته الحية بالتراث الموسيقي الجزائري، وأن المالوف لا يزال يحظى بمكانة خاصة في الذاكرة الفنية الوطنية، وأن هناك جيلا جديدا يتذوق هذا الفن وينخرط فيه بإحساس صادق.
أكد بعض الحاضرين، أن مثل هذه السهرات تمنحهم لحظات من الصفاء والحنين، وتعيد لهم صلة روحية مع الماضي، وقالت إحدى الحاضرات "نشعر أن المالوف ليس مجرد موسيقى... هو إحساس وهوية وهو لغة لا يفهمها إلا من تربى على نغمتها".
أثبتت هذه السهرة الفنية مرة أخرى أن المالوف لا يزال ينبض بالحياة، بفضل فنانين ملتزمين وجمهور وفيّ، ومهرجان يسعى بجد إلى الحفاظ على كنوز الأغنية الحضرية الجزائرية. وما سهرة الأربعاء سوى واحدة من محطات متواصلة تسعى إلى ترسيخ هذا الإرث في وجدان الأجيال القادمة.