الأسبوع الثقافي لعنابة بالجلفة

جسور الفن والتراث بين الشرق والسهوب

جسور الفن والتراث بين الشرق والسهوب
  • 161
سميرة عوام سميرة عوام

انطلقت فعاليات الأسبوع الثقافي لولاية عنابة بولاية الجلفة، أول أمس، بدار الثقافة "ابن رشد"، وسط أجواء احتفالية عابقة بروح الانتماء والوحدة الوطنية، بشعار "ثقافتنا توحّدنا...والجزائر تجمعنا".

هذه التظاهرة الثقافية تشكّل محطة فنية وتراثية هامة في مسار التبادل الثقافي بين ولايات الوطن. وعرف افتتاها باقة من العروض الفنية المتنوّعة التي عكست غنى الموروث العنابي وتنوّعه، إذ استُهلت الفعاليات بعرضٍ احتفالي لفرقة الأفراح في طابع العيساوة ببهو دار الثقافة، ما أضفى جوّاً مبهجاً وتفاعلاً كبيراً من الحضور.

تواصلت الأنشطة بتدشين معرض الحرف والصناعات التقليدية، الذي أبرز براعة الصانع العنابي وجماليات الموروث المحلي. ضمّ المعرض أجنحة متعددة منها جناح اللباس التقليدي العنابي، وجناح الكتب التاريخية والتراثية الخاصة بعنابة، وجناح الفضة والمجوهرات والأحجار الكريمة. وقد أضفت وصلة فنية بطابع الفقيرات، أدّتها فرقة فرح والفنانة هالة رحايلي، لمسةً فنية زادت المعرض حياةً وتفاعلاً. كما احتوى المعرض على جناح خاص بالمواقع والمعالم التاريخية المسجلة ضمن قائمة الجرد الإضافي للممتلكات الثقافية، بإشراف السيدة واري سهام، ما يعكس الجهود المبذولة لحماية التراث المادي وصونه للأجيال القادمة. 

في جناح الفنون التشكيلية، عرض الفنان الأستاذ محمد دميس مجموعة من اللوحات التي جسّدت مزيجاً بين الأصالة والحداثة، بينما خُصّص ركن آخر لصور فناني وأعلام مدينة عنابة، من بينهم محمد ولد الكرد، مصطفى خمار، حسان العنابي، حمدي بناني، إبراهيم باي، وقد أُعد المعرض بتقنية الذكاء الاصطناعي، في مبادرة مبتكرة تجمع بين الفن والتكنولوجيا.

ضمن البرنامج، نُظّمت ورشات فنية وتراثية لتقريب الزوّار من التراث العنابي الأصيل، منها ورشة تعريفية بالتراث واللباس والحلي العنابي من تأطير الأستاذة زهرة الفل بومزبر، وورشة في صناعة الفضة والأحجار الكريمة من تأطير الحرفي لمين خشين. كما تم عرض فيديو ترويجي تعريفي بالموروث الثقافي والسياحي لولاية عنابة، أبرز مقوّماتها الجمالية والحضارية.

بالمناسبة، اكّدت مديرة الثقافة لعنابة صليحة برقوق على أنّ هذا الأسبوع يشكّل "فرصة لترسيخ قيم التواصل والتبادل الثقافي، وتعزيز صورة الجزائر كبلد متعدّد الثقافات موحّد الهوية". تخلّل الحفل عرض فيديو تعريفي بولاية عنابة ومعالمها، ثم إلقاء شعري للشاعرة نسيمة مراح التي أبدعت في الشعر الملحون وأطربت الحضور بأشعارها الوطنية والعاطفية. واختُتمت الأمسية بتنشيط مميّز للفنان القدير رابح ترير، رئيس جمعية إشراق بونة للتراثيات، الذي أضفى على الحفل روح البهجة والتفاعل الفني الرفيع.

يتواصل الأسبوع الثقافي لولاية عنابة بولاية الجلفة إلى غاية 12 نوفمبر الجاري، ببرنامج ثريّ ومتنوّع يجسّد عمق الوحدة الوطنية التي تجمع أبناء الوطن من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، في صورة جزائرية مشرقة تُبرز أن الثقافة هي الجسر الأجمل لوصل القلوب وتوحيد الانتماء.


"حين تنقذك ورقة.. لا جرعة"

احتضنت دار الثقافة بعنابة، حملة توعوية بالتنسيق مع مجموعة "نقرأ لنرتقي"، حملت عنوانًا بليغًا وعميقًا "حين تنقذك ورقة..لا جرعة".

لم يكن العنوان مجرّد شعارٍ دعائي، بل رؤية فلسفية تعبّر عن إيمانٍ بأنّ الثقافة قادرة على إنقاذ الإنسان من براثن الانحراف، وبأن الورقة، رمز القراءة، هي حياةٌ مضيئة في وجه العتمة التي تمثّلها الجرعة. وبين الورقة والجرعة، يقف الإنسان في مفترق طرقٍ بين وعيٍ يحرّره وغفلةٍ تقيّده.

جاءت الحملة في سياقٍ ثقافي يسعى إلى توظيف الفن والفكر في خدمة المجتمع، باعتبار أنّ الوقاية من المخدرات ليست مسؤولية أمنية فقط، بل مشروعٌ ثقافي وحضاري. وقد شهد اللقاء حضور مثقفين، تربويين، مختصين في علم النفس والاجتماع، إلى جانب فنانين وشبابٍ عبّروا عن انشغالاتهم من خلال مداخلاتٍ، عروضٍ مسرحية، ولوحاتٍ فنية تنبض بالرمز والرسالة.

كانت الكلمات التي ألقيت تُعيد تعريف الإنسان من جديد: كائنٌ يفكر، يقرأ، ويحلم. فالثقافة، في عمقها، لا تكتفي بالتنبيه إلى الخطر، بل تبني من الوعي مناعةً داخلية تقي الفرد من الوقوع فيه. ومن هنا برز البعد الجمالي للحملة، إذ لم تكتفِ بتقديم النصائح، بل استخدمت الفن كأداة للشفاء والتعبير، لأن الصورة والموسيقى والمسرح قادرة على لمس ما لا تبلغه الخطب المباشرة.

تحوّل الفضاء الثقافي في تلك الأمسية إلى حالة من الحوار الإنساني بين العقل والعاطفة، بين الفن والحياة. لوحة تشكيلية تُجسّد يدًا تمسك بورقة كتابٍ بدل إبرةٍ، ومشهد مسرحي يعكس سقوط شابٍ في وهم السعادة المؤقتة، ثم عودته إلى النور عبر المعرفة... كانت هذه المشاهد أكثر من فن، كانت اعترافًا بأن الثقافة هي المقاومة الأجمل.

إنّ المبادرة التي احتضنتها دار الثقافة عنابة تعبّر عن رؤية جديدة لدور المؤسسات الثقافية في الجزائر، ثقافة لا تكتفي بالاحتفال، بل تتدخل لتصون الإنسان، وتحميه من الضياع، وتعيد إليه الثقة بذاته. فالثقافة هنا ليست ترفًا نخبويا، بل ضرورة حياتية تشبه الهواء والماء، لأنها تمنح الإنسان قدرة على الفهم والاختيار.

لقد استطاعت دار الثقافة بعنابة أن تحوّل فعل التوعية إلى حركة ثقافية واعية، تضع الثقافة في قلب الفعل المجتمعي، وتؤكد أن مقاومة المخدرات تبدأ من مقعد القراءة، ومن حوارٍ صادقٍ بين جيلٍ يسأل ومجتمعٍ يصغي. تبقى الورقة رمزًا للحياة، والجرعة رمزًا للفناء، وبينهما تختار الثقافة أن تقف إلى جانب الحياة دائمًا، لأنّها الإيمان العميق بأن الإنسان يمكن أن يُنقذ بالفكرة، لا بالعقوبة، وبالوعي، لا بالخوف.