الذكرى العاشرة لرحيل محمود درويش
جدارية أوطان الشعر

- 1310
تحل الذكرى العاشرة لرحيل محمود درويش، ومعها لا حاجة أن نضيف إلى اسمه صفة الشاعر، فلا يُعتقد أنه يوجد من نطق أو سمع شعرا ولا يعرف درويش، تمرّ الذكرى بينما يعيش العالم العربي شتاته الوجودي وعذاباته اليومية بدون أن يلتف حوله أي شاعر أو مجموعة شعراء، بل إن الشعر صار تهمة في فضائه، والشعراء غرباء في أرض الشعر.
ما من شاعر شغل الإعلام والجمهور معا كما فعل محمود درويش؛ لقد ظل يهزّ الجميع قبل أن يسلم روحه، اليوم يهتز العالم لخراب أطرافه، ولسوء حظ الإنسانية ليس هناك درويش يواجه كل هذا الدمار بكلمات من حب ونار؛ فقد كان كالروح تحرس الإنسانية، وينشد على باب اليأس قصيدة، فنرى الحياة.
لم يكن درويش موعودا بحب عظيم، لكنه عاشق كبير، ولم يكن محاربا لكنه انتصر دائما. منذ مولده في مارس 1941 إلى غاية رحيله بهيوستن الأمريكية في 2008 وهو يتدرّج سلم المجد. وجد نفسه صوتا للجماعة رغما عنه، فقد أصبح في الثانية والعشرين من عمره، شاعر مقاومة لأنه أصدر ديوانيه "أوراق الزيتون" (1964) ثم "عاشق من فلسطين"، ثمّ ظلت فلسطين عالقة بملامح وجه الشاعر وخطواته وبقصائده حتى وإن كان يتحدث عن تجربة عشق أو حب؛ لقد أصبح مقرونا بها أينما حل.
ينظر إلى قصائده الأولى أنها صرخة صادقة ليست من شاعر فحسب، ولكن من إنسان يقف على أرض مضطربة ويدين وضعه الذي لا ذنب له فيه سوى أن الأقوياء قرروه له.
هكذا تحولت قصيدة "أمي" إلى أغنية شوق وموقف، اكتنزت أكثر من معنى داخلها؛ من هي الأم؟ وكيف يراها؟ هل هي العجوز "حورية" التي رثته بقصيدة عامية إثر رحيله، أم هي فلسطين أمة تذوي، أم هي الأرض قاطبة؟
يعتقد درويش أن قصيدة "أمي" "كانت اعترافا بسيطا لشاعر يكتب عن حبه لأمه لكنها أصبحت أغنية جماعية. ويضيف: "عملي كله شبيه بهذا. أنا لا أقرر تمثيل أي شيء إلا ذاتي، غير أن تلك الذات مليئة بالذاكرة الجماعية".
استقر درويش برام الله منذ 1991، وقرر البقاء إلى أن تتحرر فلسطين، معتقدا أنه في اليوم اللاحق لحصول الفلسطينيين على دولة مستقلة يكون لديه حق المغادرة.
قبل تجربة رام الله كان درويش قد عايش تجربة غزة؛ يقول: "صدمتني غزة لم يكن فيها ولا طريق معبد"؛ فكيف تراه يجدها اليوم بعد أطنان من القنابل العمياء وبعد أن صبّ الجيش الإسرائيلي الموت على الأطفال والنساء والعجائز؟
"شعرت بالموت فقط عندما عدت إلى الحياة"
من أقدر من درويش ليحكي لنا تجربة الموت؟ ففي سنة 1984 أجريت له عملية على قلبه لإنقاذ حياته؛ يقول عنها: "توقف قلبي دقيقتين، أعطوني صدمة كهربائية، ولكنني قبل ذلك رأيت نفسي أسبح فوق غيوم بيضاء. تذكرت طفولتي كلها، استسلمت للموت، وشعرت بالألم فقط عندما عدت إلى الحياة". هذه التجربة عمقت رؤيته للشعر والحياة، وتضاعفت شعريته وموقفه من الحياة إثر تجربة ثانية مشابهة سنة 1998، وبعدها بسنتين صدر لمحمود "جدارية" تشكل بعدا مختلفا في عالمه الشعري المتصاعد، لعل الشاعر الذي تنقل بين عواصم ومدن العالم لاجئا زائرا أو مقيما، تشبّع بتجارب وجودية مختلفة لا يمكنها أن تفر من طقسه الكتابي اليومي كل صباح وهو يتجهز لرصد حالته شعريا، غير أن "القمح مر في حقول الآخرين / والماء مالح".
يقول محمود درويش: "أعرف أنهم أقوياء ويستطيعون الغزو وقتل أي شخص، غير أنهم لا يستطيعون تحطيم كلماتي أو احتلالها". والمفارقة أن كلمات درويش فتحت المدارس الإسرائيلية التي تدرسها، فيما بقيت المدارس العربية مغلقة أمامها في الغالب.
دوريش كان شاعر حياة، يستلهمها من الموت ولا يبالي، وكان ينظر إلى العالم ويصفه في كل مرّة فيجيز ويصيب وما أشبه اليوم بالبارحة! "لا القوة انتصرت/ ولا العدل الشريد".
أما الآن فالعالم يسمعه وهو يقول: "وحدنا نصغي لما في الروح من عبث ومن جدوى..." ويجيبه من شعره "كل الذين ماتوا...نجوا من الحياة بأعجوبة".