جديد الروائي مصطفى بوغازي في الحجر

"تيانو" عزلة الأرض البعيدة

"تيانو" عزلة الأرض البعيدة
"تيانو" عزلة الأرض البعيدة
  • القراءات: 991
مريم. ن مريم. ن

يقدم الكاتب مصطفى بوغازي روايته الجديدة التي أنجزها في زمن الحجر وتحمل عنوان "تيانو"، وهي تسرد بثبات وعمق عار، الكولونيالية من التمييز العنصري إلى استغلال الإنسان وموارده واحتلال أراضيه.

رواية تاريخية كُتبت في زمن الحجر، تعود بقرائها إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، تستند على وقائع صنعتها أحداث تلك الحقبة بين 1871 و1879، فتجعل من التاريخ جسرا يصل الحاضر بالماضي إسقاطا. كما تقحم شخوصا من المخيال، تتحرك في الزمان والمكان مع شخصيات تاريخية.

ويشير الكاتب في تقديم روايته إلى أنها تنقل القراء عبر رحلة بحرية لشهور في عرض البحار والمحيطات، رحلة إلى المنافي البعيدة في كاليدونيا الجديدة، ليرحل صوت الكلمة الحرة للمبعدين من باريس بعد انهزام فرنسا في حربها مع بروسيا ونهايتها بآلاف الأسرى بينهم نابليون الثالث، وجهة كذلك لمئات المنفيين الجزائريين على خلفية ثورة المقراني في نفس الفترة من سنة 1871.

رواية تسلط الضوء على ظروف الإبعاد والقهر، ومدى وحشية البيض في إبادة السكان الأصليين واستغلال مواردهم وثرواتهم، وقمع مقاومة الكناك سنة 1878، ورغم هذا كله لا تخلو المشاهد من نفحات الحب والإنسانية، وتظل أصوات المبعدين تصدح بالحرية وقيم الإنسان في هذه الأقاصي البعيدة من جزر المحيط الهادي.

"تيانو" عزلة الأرض البعيدة بداري نشر؛ واحدة جزائرية وأخرى مصرية، ستكون بين يدي القراء. وبالمناسبة أطلق الكاتب مقطعا من الرواية، جاء فيه: "ظلت عَيْنا "تيانو" معلقتين بيوسف طوال الحفل، فلم تكن "عزلة الأرض البعيدة" إلا مرادفا لمعنى اسمها لفظا، بينما كانت في الواقع وَطَن أنثى يفتح أحضانه بلا أدنى شرط للانتساب.

فطرة الإنسان التي انفلتت من قوالب الترويض والتلقين تدغدغ المشاعر وتبسط أشرعة الألفة للإبحار في النفوس، فتجاوب معها بعد أن ظل لا يعرف كيف يلوذ بعينيه عنها خجلا، لفرط ما حرصت على لفت انتباهه وقد شَدَّهَا عنفوان شبابه، وبشاشة وجهه بعينيه الحالمتين.

ولا أحد يمكنه أَن يُجْهض خِيَارَهَا في القبيلة وقد أباحه العرف. وتظل "تيانو" أقرب من الملكة" كانيدجو" وزوجها الزعيم "كاويني فنديغو"، فهي في منأى عن أي معارضة لرغبتها، فكان لها أن تقيم مأدبة على شرفه بطبق "بوغنا" الذي يُعد للضيوف المبجلين، فيطهى في مِرْجَلٍ على أوراق الموز بمكوناته من درنات وخضر ولحوم وأسماك وحليب جوز الهند.

كما أخذت بين يديها منحوتة من الخشب ربطت إلى حبل رُصِّع بالأصداف، حلية وعملة متداولة، وهدية ثمينة يتبادلها أعيان العشيرة فيما بينهم، سلمتها له وهي تقول: "إنها من ممتلكات العائلة تعود إلى زعيمنا الكبير "كوا فيدكو"، أهدتني إياها كانيدجو.

علم يوسف من "تيانو" أنها لا تعرف مصير والديها، فقد اختطفهما بحارة في عز شبابهما، وتعتقد أنهما نُقِلا إلى جزيرة "فيجي" وبيعا هناك للعمل في حقول القطن وقصب السكر، وما راحت تسترجعه من ذاكرتها مجرد أكليشيهات باهتة لعملية اختطاف، حيث تُرِكتْ بين الأشجار تجهش بالبكاء، ليكَفلَهَا "واكومي" الوصي على "كانيدجو"، فتربت معها في بيته، وكانت تكبرها بسبع سنوات.

كان يستمع إلى قصتها بتأثر كبير؛ فهو أقرب إلى معنى الإحساس بالفقد الذي يفوق وجع الموت، ومقدار الألم الذي يلم بكل من قست عليه الحياة، حين تزج صرخة الميلاد بوجوده في تناقضات الدنيا ليحدثها قائلا: "إن هؤلاء الذين يكتمون أنفاسكم في هذه الجنة ويستغلون ثرواتكم ويستبدون أحراركم، هم أنفسهم الذين غزوا بلدنا في مغرب الشمس، ورحّلونا إلى هنا حين حاربناهم".

هل هي بعيدة جدا كما يقال؟.. هي بعيدة أكثر مما تتصورين، مسافة شهور من الإبحار لم يبق لي فيها سوى قبرين؛ أم لم أعرفها في حياتي، وأب فقدته قبل أن يشتد عودي، هوى عليه جرف أثناء مد سكة للحديد، وهو يكابد شظف العيش بأجر زهيد.

كانت الشمس تنحدر نحو الغروب وراء قامات الصنوبر السامق، فاستحال الماء عند الشاطئ إلى لون قرمزي، واستسلمت الجزيرة إلى سكون مُلْهِم عدا صخب الموج المتواتر. وقفت "تيانو" وهي تضع كَفَّيْهَا على كتفيه، اقتربت أكثر لتحس بأنفاسه الحارة، فهوى على شفتيها النَّهِمَتَيْن، ينهل منهما شهدا عسليا، غير معلن عن نية الاكتفاء، ثم سارع عائدا إلى القرية بخفة فراشة".

للإشارة، مصطفى بوغازي أستاذ وأديب وكاتب صحفي من مواليد ولاية سطيف. من أعماله "أحلام الفجر الكاذب" مجموعة قصصية صدرت عن دار الفرابي 1995، و"الإنسان في آفاق الكتاب الأخضر" دراسة في نظرية النظم صدرت عن دار الكتاب ببنغازي الليبية، وكاتب مقالات في أسبوعيات "بريد الشرق"، و"رسالة الأطلس".