"هارمونيكا" تدخل المسرح الوطني

توليفة من تراث مالك حداد

توليفة من تراث مالك حداد
  • القراءات: 1210
مريم. ن مريم. ن
تحوّل ركح المسرح الوطني أول أمس إلى ساحة جدال للأفكار والرؤى الفلسفية الملفوفة بخيوط التاريخ والسياسة، والمترجمة بأشعار العملاق الراحل مالك حدّاد العاشق الأبدي لصخور أمه قسنطينة، التي ظلت وفية ولم تبدّل تبديلا، كان هذا من خلال عرض مسرحية "هارمونيكا" الرواية المرئية التي تكشّف فيها العشق والانتماء، والتي أثبتت أن الحياة ظاهرة أدبية.
يبدأ العرض بالبطولة المطلقة للصمت إلى أن تكسره نغمات الهارمونيكا الرقيقة، ويتجسد الديكور الذي يشبه أطلال الآثار الرومانية، ليدخل الصحفي إيدير بن عمر ويتأمل بابا كبيرا ويصوره ويدقه، ليسمع من خلاله صوتا خفيا يتحاور معه، وهو صوت الأديب المعروف (خالد بن طوبال) الذي يريد إجراء حوار صحفي معه؛ باعتباره مهتما بالشؤون الثقافية في المجلة التي يعمل بها، وهنا يجري جدال فلسفي حاد.
يفتح بعدها الباب لكن بدون إيدير، الذي سوف يظهر في المشاهد اللاحقة، أما المشهد الأول فيبدأ حين يفتح الباب ويدخل منه الكاتب الجزائري خالد الذي تنتابه بعض الذكريات وهو يدخل مدينة باريس. يحل ضيفا خفيفا على عائلة سيمون، هذا الأخير الذي عاش طفولته معه بالجزائر، وهكذا يتعرف على زوجته مونيك وابنته نيكول، فيسهب في الحديث عن الجزائر وعن زوجته الحبيبة وريدة وأبنائه فريد ومليكة ومراد وعن كل قطعة في قسنطينة المدينة الوحيدة، التي يرى سكانها الطيور من تحتهم بفضل جسورها المعلقة، وهنا يكون الحوار بالدارجة عند مخاطبة سيمون أو أحد الجزائريين المقيمين بفرنسا وبالعربية الفصحى الراقية والشاعرية حين الحديث إلى الفرنسيين.
المسرحية نموذج من نصوص تنتمي لأدب المقاومة، وتعكس إبداعات الراحل مالك حداد بلغة شعرية ترفض اللاعدالة والظلم المسلَّط على أبناء جلدته خلال الفترة الاستعمارية.
المسرحية ترجمة لنص أدبي شعري لمالك حداد، جُسّد بتمكن فوق خشبة المسرح، وكان أهم محاوره اللاعدالة وعرض همّ الإنسان الجزائري الذي كان يكره الحرب، إلا أنه كان مرغما على دخولها.
المسرحية تجسيد لمقاطع روائية؛ لذلك فهي موجهة أساسا لجمهور نخبوي. مسرحية "هارمونيكا" تكريم لمالك حداد، هذا العملاق الذي كانت رواياته توضع فوق مكتب الرئيس الفرنسي ديغول ليقرأها.
للإشارة، فإن "هارمونيكا" هي الآلة الموسيقية التي أعطاها خالد بن طوبال للشاب الجزائري ليعزف عليها، كما أن مالك حداد تحدّث عنها كثيرا في كتاباته؛ لأنها ترمز للتناغم الإنساني ونبذ الحروب.
ترددت العديد من الأغاني باللغة الفرنسية طيلة العرض التي تنتمي لفترة نهاية الخمسينات وبداية الستينات، وهي نصوص كتبها أحد أهم الشعراء الذين تأثر بهم مالك حداد، وهو لويس أراغون الذي كان مناصرا للثورة الجزائرية، فكانت المسرحية بمثابة تخليد لهذه الصداقة الأدبية، عبر دمج شخصيات مالك حداد بكلمات لويس أراغون التي غناها مغنون كبار، على غرار لينا سيمون، ليو فيريي وجون فيرا، ناهيك عن أنغام المالوف الأصيلة التي ارتبطت بكل حديث عن الجزائر.
قوة الحوار فرضت نفسها في العرض بعيدا عن الفراغ أو الرتابة أو حتى التكرار لتشد الجمهور، ناهيك عن الدارجة التي كانت في الغالب ساخرة.
في المقهى الذي يتردد عليه ابن طوبال كل شيء به مثير؛ لذلك فهو المكان المفضل للكتابة رغم مضايقات البوليس الفرنسي الذي يأتي لمضايقة الجزائريين، وهو أمر لا يستصيغه بعض الفرنسيين الشرفاء من أمثال موريس صاحب المقهى، الذي غالبا ما يسهر مع خالد وهو يكتب والسيدة ليونيل الممتعة.
تحضر في المقهى شخصية بيمبو الذي يهزأ بكل ما هو فرنسي حتى الموسيقى الراقية ويقاطعها بصوته السكير، ويطلب الجرموني، وغالبا ما يثور على فرنسا التي تهينه، وهو الذي حماها كغيره من الجزائريين في الحربين العالميتين، وكان يقول: "نحن كنا الأشجع"، ثم يسترسل في الحديث عن مآسي الجزائر بما فيها الجوع والبؤس الذي دفعه إلى ذبح حماره الوفي.
نفس هذا الوفاء أبداه خالد بن طوبال من خلال تمسّكه بزوجته الحبيبة وريدة وصده لإغراءات مونيك المولعة بأدبه، واجتهاده في وصف مدينته وطبيعتها الخلابة وجبلها الحارس وأمه الحنون حمامة وابن باديس، وكذا الشموس والثلج وغيرها من الصور والمعالم الجزائرية والقسنطينية خاصة، بالمقابل يكون خالد حادا مع رئيس تحرير المجلة التي يعمل بها كلما تعلّق الأمر بشؤون الجزائر التي تعيش الثورة؛ إذ يتهَم بأنه يخلط السياسة بالأدب ويكتب بسخرية جارحة، لكن خالد كان يرد بأن جرح الواقع كان أكبر من جرح الكتابة، وبأن فرنسا تعكّر كل شيء وتزرع "التيفيس" بين الجزائريين.  تحمل المسرحية رؤى فلسفية وجمالية راقية في قالب بسيط بعيد عن الخطابة المباشرة.
للتذكير، فإن المسرحية من إخراج فتحي كافي، ومن تصميم خالد بلحاج، أُنتجت في إطار محافظة تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، بحيث تم الاتفاق بين المسرح الجهوي لمعسكر والمحافظة على تقديم ثلاثة عروض بقسنطينة و3 أخرى بالمسرح الوطني الجزائري، فضلا عن برمجة عروض بمعسكر وولايات أخرى من مختلف جهات الوطن. وشارك في الأداء الممثلون محمد فريمهدي وحمزة فضيل وأحمد لكحل وبشير بن سالم وزليخة بلحاج وغيرهم.