معرض "أرتيميسيا" برواق "عائشة حداد"

توقيع كلاسيكي لتراث "المحروسة"

توقيع كلاسيكي لتراث "المحروسة"
  • القراءات: 988
مريم. ن مريم. ن

تَزاحم الجمهور العاصمي، على غير العادة، على رواق "عائشة حداد" لاقتناء لوحات معروضة به، لكنّه أصيب بالخيبة بعدما علم أنّ البيع ممنوع، ليكتفي بإمتاع عينيه بكلّ ما تَوفّر من ألوان الطبيعة وتفاصيل الأشياء والأماكن، ويقرّر بعدها عدم المغادرة، وإعادة المشاهدة والتحسّر على أن مثل هذه الروائع ليست من أشيائه الخاصة، وإنما ضمن معرض جماعي من تنظيم ورشة "أرتيميسيا" بواد الرمان التي ترأسها الفنانة فايزة بايو.

يلبي هذا المعرض الذوق العام للجمهور الجزائري العادي الذي تثيره المدرسة الواقعية والروائع الكلاسيكية أكثر من الفن الحديث والتجريدي، مثلا الذي يتطلّب المستوى العالي والذوق الفني الذي له أوساطه ونخبه، فالجمهور يدخل بانسيابية إلى المدرسة الواقعية التي تفهم ملامحها ولا تحتاج إلى مترجم، فكلّ ما فيها من صميم اليوميات ومن جميل الحياة بعيدا عن البؤس والقبح وكلّ تلوث، قد ينال من العين والوجدان، وربما كان هذا الدافع الأوّل وراء هذا الاهتمام.

ينجذب المارة من عموم الناس إلى المعرض، وبفضول تام وبخطوات غير إرادية يجد الواحد من هؤلاء نفسه في قلب المعرض، ليطوف ويجول بين اللوحات ذات الأشكال والألوان المختلفة، ويشارك في هذا المعرض سبع فنانات وفنان واحد، منهم فنانة فليبينية تدعى أنيتة، احتد فيه التنافس وتسابقت الألوان والأطياف؛ إذ تحاول كلّ لوحة أن تكون وحدها النجمة، وتكاد تنطق حتى تستطيع مخاطبة عشاقها الكثر الذين لا يحوّلون أبصارهم عنها.

أغلب المشاركين وجلّهم سيدات كن طالبات بورشة "أرتيمسيا"، خضعن لتكوين دام 3 سنوات، وها هن اليوم يقدّمن عصارة ما جادت به بنات الخيال من موهبة وتحصيل، فتتناثر في أرجاء المعرض وفي أركانه الضيّقة باقات الورد من كلّ لون ونوع لم يخلق الله أجمل منها، فالألوان والأوراق والأغصان هبة ربانية مكللّة بالندى وبأطياف النور المسلّطة عليها من هنا وهناك، وغالبا ما تقدَّم هذه الباقات الحية في مزهريات أو أوان فخارية أو نحاسية تقليدية، وبمفارش مزركشة.

بالنسبة للفنانة أنيتة فقد اختارت بإحساسها الأنثوي المرهف، من كلّ روض زهرة مع مراعاة الانسجام التام، لتبدو المزهرية، مثلا، وكأنّ يدا صفّفتها بعناية وليست مجرد لوحة خطتها ريشة، وعموما تبدو اللمسة الأنثوية الناعمة بجلاء تام؛ فالوشاح الأحمر وبعض التحف النحاسية وغيرها تكاد تكون العنصر القار والمتكرّر. لا يغادر المعرضُ صغيرة ولا كبيرة من يوميات المرأة حتى في جلسات القهوة التي لا تتمّ إلاّ بحضور طاقمها الخزفي الراقي المرصّع بالرتوشات والأحجار الكريمة، والذي تزاحمه في صينية التقديم قطع الليمون ذات الأصفر الفاقع، وفي الأطراف أغصان الورود والياسمين المتناثرة، التي تشجّع على احتساء القهوة في أجواء من الروعة والرقة بما كان.

من ضمن الفنانات فنانة وقّعت لوحاتها باسم آسيا، رجعت بالجمهور إلى زمن جميل ولّى لم يعد له مكان في يومياتنا، لذلك أطلقت اسم "حنين" على لوحة حي القصبة الذي كان مرادفا لكلّ ما هو جميل ومتحضّر، وسمحت لخيالها الخصب بأن يتوغّل في التاريخ ويقطع العقود والقرون ويرصد سيدات الحايك النازلات في هدوء وحشمة عبر سلالم ومنحدرات الحي باتجاه البحر الممتد العاشق والحارس لهذه المحروسة. وقد فضّلت الفنانة أن تُدخل في لوحاتها الأخرى شيئا من الأسلوب التعبيري لتبدو الصورة كالحلم الغائر في الذاكرة. تتوقّف هذه الفنانة في لوحاتها عند باب كلّ بيت، وتتمحص وجوه السيدات من تحت "العجار" لعلها تتعرّف على واحدة منهن، ربما تكون إحدى الجدات من أسلافنا، اللواتي كن يصنعن الحياة بالقصبة ويصنّّ ما بداخل جدرانها.

لوحة "حنين" ممتدة إلى عدة لوحات، تخطو بها الفنانة ما كان من حكاية ستبقى الريشة ترويها للأجيال، تماما كما وقعت، تساعدها في مهمتها أنوار الشمس التي تخترق جدران الأبواب والنوافذ لتكشف ما كان، ويوثّق المعرض أيضا للتراث الجزائري العريق، سواء في المعمار أو في أسلوب الحياة أو في الديكور وغيرها من مظاهر الحياة، كدليل على تحضّر وتمدّن الجزائر القديمة التي ساد فيها الفن (الآلة) والرقي الاجتماعي والرخاء وحتى "البريستيج". ولا تحنّ آسيا فقط للجزائر القديمة بل أيضا لبلاد الأندلس موطن كلّ جمال وحضارة، وغالبا ما تربطها بباقات الورد الندية وبالوشاح الأحمر وبآلة القيثارة.

من جانبها، تجتهد الفنانة زهرة في إخراج يوميات المرأة من الذاكرة المشتركة، ويتصدّر ذلك الأواني والتحف التي مازالت المرأة الجزائرية حريصة على امتلاكها، كما لا تخفي الفنانة تعلّقها بالمطبخ الجزائري الأصيل المملوء بخيرات أرضنا الطيبة المعطاءة. تتوغل زهرة أكثر عبر الزمن والمكان، لتصل إلى الريف وتدخله من بوابة بوسعادة؛ حيث تظهر الفلاحة ومعها الفلاح أيضا يستمتع بما كسبه من عراجين التمر. وفي لوحة أخرى تظهر العائلة الريفية البسيطة وهي تتناول الطعام، والمرأة تحضّر الكسكسي على "المباشر".

تختفي في بعض اللوحات الخصوصية الجزائرية، وتظهر بعض المعالم الفنية الكلاسيكية، منها إعادة لبعض روائع جيل الروّاد من فناني عصر النهضة، كالمرأة التي تحضّر الحليب في الريف الأوروبي، ومنها لوحة "الطاولة الريفية" المملوءة بكلّ المنتوجات. كما تتراءى من بعيد لوحة "البالي"، التي تصوّر راقصة تتأهّب للدخول إلى المسرح وهي في كامل أناقتها، تواجه الأضواء التي تطل عليها من خلف الكواليس شبه المظلمة.للإشارة، فإنّ أغلب المشاركين ليسوا شابات خضعوا للتكوين في مراحل متقدمة نوعا ما من السن، اشتركوا في الهواية وفي إتقانهم لغة الريشة والألوان، وحرصوا من خلال هذا المعرض أيضا، على نقل إمكانيات الورشة التي تكوّنوا بها.