معرض الفنانين بن عزوز ومولاي برواق باية بقصر الثقافة

تشكيلات بأطياف الجدل

تشكيلات بأطياف الجدل
  • القراءات: 1116
مريم. ن مريم. ن
يستقبل رواق باية بقصر الثقافة، مفدي زكريا إلى غاية العاشر أكتوبر القادم معرضا مشتركا للفنانين، نور الدين بن عزوز ومولاي طالبي، القادمين من الجوهرة تلمسان حيث يعرضان بامتياز الاحتراف في أرقى تجلياته ضمن إطار فلسفي معبأ بالأفكار والنقاشات المفتوحة، كما لا يخلو المعرض رغم شعاره "آلام" من الطرافة التي أسرت بسخريتها السوداء الجمهور. وتتزاحم اللوحات والمجسّمات لتقدم نفسها مباشرة للجمهور، فعلى الرغم من كثرة اللوحات المعروضة إلاّ أن الزائر لا يكّل ولا يمل. بالنسبة لنور الدين بن عزوز، فقد قدّم الكثير من الأعمال كان أبرزها تلك اللوحات الضخمة التي تعجّ بالألوان والأضواء والظلال ما يجعل الرائي يغلغل نظره فيها ليبحر فيما وراءها لعله يكتشف أبعادا أخرى مستترة.
تمتد في هذه اللوحات الطبيعة سواء الخضراء منها أو القاحلة التي تتلاقح فيها الألوان والأبعاد الهندسية في عفوية مطلقة خاصة مع استعمال الأسلوب التجريدي القادر على خوض معارك الفكر والجدل القائم على الحجة والبرهان. من جهة أخرى، فقد اعتمد هذا الفنان وبشكل كبير على الأسلوب الانطباعي والتصويري، مستغلا الألوان الزاهية التي يتصدرها الأخضر الفستقي والبرتقالي المزهر، كما التزم الفنان بجمال الطبيعة في الجزائر من خلال خصوصيات ومعالم معينة توحي بروعة المشهد صنيع الخالق. ومن ضمن ما رصده الفنان، تلك البيوت الحجرية العتيقة المترامية في الحقول وسط الاخضرار وتحت سماء صافية.
لوحة كبيرة أخرى تتشكل فيها الهضاب وكأنها قباب من ألوان مختلفة تركب بعضها البعض لتصل بالمشاهد إلى شاطئ البحر الذي يبدو وكأنه خيط رفيع يشبه السراب. تعم في كثير من اللوحات الفوضى الخلاّقة التي توقعها الألوان من هنا وهناك وفي كل الاتجاهات لتبدو كالدوامة التي تسحب بجاذبية عالية المتمعن فيها، علما أن هذه الألوان كانت تبدو وكأن بداخلها تجاويف تضم بدورها المزيد من الأشكال والألوان التي غالبا ما تكون ألوانا نقية من وحي الطبيعة.
احتوت لوحات أخرى يوميات الحياة البسيطة خاصة تلك الموجودة في الجبال والقرى إذ تم رصد القرى بتفاصيلها خاصة من حيث البيوت والأزقة الحجرية الضيقة التي تشق مسالك الطبيعة لتكون همزة وصل بينها وبين الإنسان المرتبط دوما بأرضه التي لا تبخل عليه بثمارها وخيراتها. بالنسبة لملامح الوجه، فقد كانت مبهمة عند جميع الشخوص، وغالبا ما كانت هذه الأخيرة من الريف الجزائري سواء بالنسبة للنساء أوالرجال الذين ارتدوا اللباس التقليدي المعروف عند الفلاح. استعملت في هذا المعرض الألوان المائية والزيتية على حد سواء.. أما التقنيات، فقد كانت مختلفة ومتعددة منها تقنية الريشة والسكين والمزيج واللصق وغيرها، ولعل هذه التقنيات برزت تماما في لوحة وديان مختلفة الألوان والأشكال تزحف في صمت وخفية تماما كالثعابين لتصل إلى البحر.
استعان الفنان أيضا بالتراث الجزائري سواء في العمارة أو في العادات والتقاليد لينجز لوحة ضخمة تبدو فيها البنايات القديمة شاهقة وتتراءى من خلفها مئذنة وتحتها سوق شعبي وشارع تمر به النساء.. والصورة تعبر عن جزائر القرون الفارطة، وهنا أسهب الفنان في توضيح الإنارة العالية كدليل على الصفاء ونور هذا البلد الآمن. في الجهة المقابلة، عرض الفنان نور الدين بن عزوز لوحات أخرى من الحجم المتوسط والصغير، أغلبها رسومات صبيانية كتلك التي ترسم في المدرسة بألوان الرصاص وذات مواضيع ساذجة لكن الفنان استغلها ليطعمها باللصق سواء كان ذلك عبارة عن كتابات صغيرة من الأوراق والصحف أو بعض القطع الملونة ذات الأشكال الهندسية المختلفة، إضافة إلى بعض الرتوشات والرموز.
عرض بن عزوز المتخرج من المعهد الوطني للفنون الدرامية والحاصل على جوائز وطنية ودولية هو الآخر، الكثير من الأقنعة الإفريقية الجميلة التي تبدو أصلية من فرط إتقانها تعبر بملامحها عن القارة السمراء التي عرفت الفنون والألوان منذ فجر الإنسانية، حيث عاش فيها الإنسان منسجما مع بيئته فارتبط بها وعبّر عنها بصدق.. زين الفنان تلك الأقنعة بالحلي الإفريقية وغالبيتها كان من النحاس، وهو ما يعكس بحق ثقافته الأنثروبولوجية وتمكنه من المقاربات الفلسفية، وهو ما يتوضح أيضا في مجال اللصق الذي يمثل منحوتات أنجزت باستعمال قطع معدنية تجسد أشكالا لوجوه بشرية (لوحات معدنية) وكذا رماح ضخمة وأواني قديمة.
شارك في معرض "آلام" الفنان مولاي طالبي بأربع لوحات من الحجم المتوسط أغلبها في الطبيعة الميتة من خلال الأواني والزهور والثمار وما شابه، لكن حضوره والسر في إعجاب الجمهور به كان من خلال أعمال المسترجعات المشكلة كلها من النحاس، ومن ضمن ما عرض نجد مثلا ثلاجة وضعت بداخلها مجموعة من الكتب كدليل على جمود القراءة في مجتمعنا لتتواصل سخرية الفنان من خلال معروضات أخرى منها نصف عجلة فوقها كبة صوف معدنية توحي بنصف مشوار إنسان لا يزال ينتظر المزيد، وعرض هناك أيضا حمار يحمل أسفارا وقوارير الغاز دون أن يعي ما يحمله ليحس فقط بمشقة الحمل ولا يستفيد منه  وبجانبه بقرة حلوب ذات الضرع المملوءة التي لا تحلب بل يسحب لبنها من جنبها تماما كما يحدث في محطة البنزين ... مجسمات أخرى كثيرة منها العدالة المزيفة التي نقشت مجسماتها على الخشب، وكذا الصيد الذي يأتي بالسمك ويأتي أيضا بحذاء قديم كدليل على تلوث البيئة، كما كانت هناك مجسمات أخرى عبارة عن تكريم للأم التي وضع قفل الباب على ظهرها باعتبارها أساس البيت وبدت رجليها صغيرتين نتيجة تعبها بينما كانت خطوات طفلها الذي تصطحبه إلى المدرسة أكبر كدليل على أنه هو المستقبل. خصّ التكريم أيضا "المهرج" الذي يراه الناس تافها وسطحيا ودائم السعادة بينما يخفي وراء ابتسامته العريضة آلاما أوأفكارا قيّمة ونبيلة. ما يميز معرض المسترجعات لمولاي طالبي هو تلك القدرة على التشكيل وعلى إبراز الفكرة دونما عناء أوسفسطة، تجعل من الزائر يستمتع من قالبها الفكاهي لكنه سرعان ما يقرأ رسائلها العميقة.