«الطمس» لسمير تومي

تشريح نفساني لصراع الأجيال

تشريح نفساني لصراع الأجيال
  • القراءات: 779
ق.ث ق.ث

قدّم سمير تومي في روايته الثانية «الطمس» الصادرة باللغة الفرنسية بكثير من الصرامة والقسوة، صورة عن الانهيار العصبي لرجل سحقه ظل أبيه في شكل جمع بين اعتراف هذياني بفقدان الهوية ونقد لاذع لنخبة اجتماعية وعلاقاتها بالخلف. 

وسبق للكاتب إصدار رواية أولى قبل 3 سنوات بعنوان «الجزائر .. الصرخة»، وهي عبارة عن سرد ذاتي وشاعري عن العلاقة بين الرجل ومدينته، لكنه اختار في عمله الجديد أسلوبا أدبيا يجمع بين «القسوة والمنطق الصارم لسرد حكاية ابن مجاهد يصحو في عيد ميلاده الـ44 ليكتشف بذهول غياب ظله (وجهه) في المرايا، فالرجل مجهول الاسم ويتحدث بضمير المتكلم، لكنه مرتاح ماديا وله منصب مستقر في مؤسسة عمومية وخطب مؤخرا فتاة تدعى جويدة تنتمي إلى نفس طبقته الاجتماعية. 

كان كل شيء في حياته يسير حسب نظام دقيق، لكن موت أبيه منذ سنة أحدث انهيارا في توازنه الذهني وكان والده «الرائد حسن» شخصية سياسية رفيعة المستوى خلال حرب التحرير وبعد الاستقلال، وله مكانة في المجتمع، غير أنه سريع الغضب ومستهتر. 

وإن كان معنى «أعراض الطمس» أو اضمحلال الشخصية دال على ثقل تأثير جيل «بناة الجزائر» إلى حد «خنق» الجيل التالي واضح في أحداث الرواية، إلا أن الكاتب استعمل طريقة لبقة لتمرير الفكرة. 

فقد أقحم الكاتب مع الصفحات الأولى من الرواية شخصية «الدكتور بـ»طبيب ومحلل نفساني يتردد الراوي على استشارته لمعرفة سبب ذلك «الطمس»، وسمح الأسلوب الذي اختاره تومي من أجل بسط الحكاية انطلاقا من أسئلة الطبيب المعالج من رسم صورة نفسانية دقيقة عن شخصية بطله، من خلال مواقفه وردود أفعاله تجاه أحداث معينة وعلاقاته الأسرية والمهنية. 

يكتشف القارئ على امتداد الجلسات العلاجية وتدهور الحالة النفسية للراوي هذا الأربعيني المنطوي الذي ليس له أصدقاء، أن الرجل وصل إلى مرحلة من «الإفراغ» بعد غياب الأب الذي كان يعيش في ظله. 

ويحاول الكاتب التقرب أكثر من شخصية بطله عن طريق تحليل روابطه الأسرية، فيظهر اختلاف بينه وبين أخيه فيصل، بينما هناك تشابه بينه ووالدته التي حبست نفسها بين جدران الشيخوخة والصمت بعد ترملها، كما للراوي بعض طبع والده، مثل نوبات العنف التي زاد المرض من حدتها.  

تبلغ التقلبات التصاعدية في شخصية البطل أوجها في الجزء الثاني من الرواية المعنونة بـ»وهران»، حيث يفتح الكاتب قوسا للحديث عن «هروب» الراوي، يتنوع وصف تلك المرحلة بين الكليشيهات والسخرية والواقعية. أبدى سمير تومي في هذا الجزء من الرواية الكثير من التحكم في تشكيل بنيان شخوص ثانوية لها حضور، وهي مستوحاة من عوالم مشبوهة تسكن ليالي وهران.  

فتغير نبرة سير الأحداث مع ظهور نوبات هذيان مشحونة بشك جنوني عند الراوي يمهدان للجزء الثالث الموسوم بـ»الغيابات»،  حيث يتجسد فيه فقدان الهوية بصفة غير منتظرة لدى القارئ، وتعطي كل هذه العناصر للرواية التي تتميز ببنية متناسقة مزيدا من الرصانة في تباين مع الحركات العاطفية والذاتية التي ميزت رواية تومي الأولى التي تنتمي إلى التخييل الذاتي. 

وتمكن المقارنة بين الروايتين الصادرتين عن منشورات «البرزخ» من قياس مدى تطور الكاتب -الذيولج عالم الكتابة متأخرا- الذي ابتعد في الرواية الثانية التي تقع في 215 صفحة، عن الخيال بحثا عن مكان في الحقل الأدبي الجزائري.