"الدخلة باطل" لجودت قسومة بـ "الزوار للفن"

تجليات الأسطورة وسلطة الطرافة

تجليات الأسطورة وسلطة الطرافة
  • القراءات: 2466
مريم. ن مريم. ن

تتناثر الألوان والتراكيب كزخات المطر، عاكسة خصوبة الأفكار وشجن الوجدان ونظرة ساخرة لمجريات الحياة وتناقضات بني البشر، لقد أصبح من الطبيعي أن تصوّر المشاهد رأسا على عقب، فلذلك ما يفسّرها على أرض الواقع.. إنها فلسفة لا تترجم إلاّ بريشة الفنان الجزائري المشاكس؛ جودت قسومة الذي لا يزال في رحلة بحث عن الجديد في الأسلوب الفني وفي الخطاب التشكيلي، وهو ما تجسّد في معرضه "الدخلة باطل" المقام بالمركز التجاري لباب الزوار، الذي تتواصل فعالياته إلى غاية 28 من الشهر الجاري.  "الدخلة باطل" يتضمّن 22 لوحة أغلبها من الحجم الكبير، وكلّها مزدحمة بالألوان والتشاكيل المتجانسة والمتناقضة أحيانا، تتحدّث عدّة لغات منها الإفريقية والأمازيغية واللاتينية والعربية، ولكلّ مجالها وحيّزها المؤهلة له، كذلك الحال مع الألوان التي جاءت جميعها من النوع الفاقع، ناهيك عن حضور الرموز منها البربرية ومنها العيون والخامسة والنجوم وغيرها كثير.

من جهة أخرى، يوظّف الفنان قسومة بعض أعضاء الجسم، خاصة الأيادي والأرجل والعيون التي غالبا ما تعود في كلّ لوحة وبحركات مختلفة، كذلك الحال مع الأساطير والخرافات الشعبية المتوارثة منذ أزل التاريخ، والتي نسجت من خلالها الحكايا والتعاليق المتهكمة الرافضة في أغلبها لمتحوّلات غير مرحّب بها في مجتمعنا الأصيل والمتجانس. ومن قناعات هذا الفنان؛ التعددية في الفن التشكيلي، لذلك يحرص على الالتزام بها بكلّ ما أوتي من قوة، فالتعدّدية تسمح للمبدع بأن يجسّد في آن واحد الضحك والشك والمعاناة وأشياء أخرى، وهو ما فعله قسومة في هذا المعرض واستعان في ذلك بتمرّسه الراسخ وتكوينه الأكاديمي العالي (ماجستير في الفن والاتصال)، وبذكاء راق عرف من أين تؤكل الكتف وأين يضع قدميه دون الخوف من أي انحدار يصادفه.

يحسّ المتمعّن أنّ الفنان يرسم بقلبه قبل ريشته، فهناك سرّ ما يجذبه لاإراديا للوحة، كما يجذبه المستوى الراقي والوسائل التقنية المستعملة من قماش وورق مقوى وخشب وألوان مائية وأخرى زيتية، حضّرها بنفسه. فهو من يمزج الألوان ويركّب المشاهد الأصلية المستمدة في أغلبها من الواقع السياسي والاجتماعي اليومي، ولا يسقط في كلّ ذلك الجانب الفني والجمالي من خلال بعض الأساليب،  منها التصويري الحر، وقد سمى بعض الأساليب التي اختارها بـ«نيو بوب" الفن التشكيلي. تتوالى اللوحات في طابور متسلسل وبنظام تام لا يعكس التناقض الحاصل بها، ويبدو بعضها كقطعة من رسومات الشريط المصور وأخرى تبدو كرسومات صبيانية، لكنّها جميعها ليست عفوية ولا بريئة لأنّها مثقلة برسائل كثيرة وبمواقف تجسّد قناعات صاحبها بعيدا عن المباشرتية، وتعتمد على الطرافة والروح الخفيفة لإيصال كلّ ما تقدّم بطريق سريع لا منعرجات فيه يضيع فيها المشاهد.

تولد من خلال هذا المعرض علاقة مباشرة بين الفنان والمشاهد، تتجاوز النظر إلى المشاركة في الضحك والحميمية، ويميل جودت قسومة إلى الأسلوب الفني المعاصر الذي حقّق قفزة نوعية في الجزائر، لكنه رغم ذلك يبقى هذا الفن في مكنونه مبهما وغير واضح لبعض الجمهور وحتى لبعض الفنانين. وشدّت بعض اللوحات الجمهور، خاصة تلك المتفجرة بالألوان والعاكسة للطابع الإفريقي أو الأمازيغي، ففيها تتجلى الأسطورة والخصوصية الثقافية المسجّلة بالحروف والرموز، كما تبدو بعض اللوحات مشاهد مسرحية بأقنعة جذابة يوظف فيها جانبا من الفلكلور. ومن اللوحات الجذابة أيضا؛ لوحة "الحرز" ذات الخلفية الرمادية القاتمة التي تنتشر فيها الطلاسم والتمائم ورموز الشعوذة، لكنّها مقدّمة في انسجام ساحر بالألوان والزخرفة، وتظهر أيضا لوحة "بورتري ذاتي" التي يخصّصها الفنان لنفسه، تظهره يقهقه بملء فاه رغم آثار الجروح البادية على خده ورغم الخيوط المنسوجة حول لسانه.

أما لوحة "تستيفة" فهي عملاقة يبسط فيها كائنا غريبا، أطرافه عبر مدارات ومتاهات لا نهاية لها، ليمسك الأرض وبها يوجد جانب من الزخرفة وبجوارها لوحة يظهر نفس الكائن باكيا، لتمتد الدموع وديانا جارية تمر من المنبع وهو القلب الصافي. بالمناسبة، التقت "المساء" بالسيدة آمال بن محمد وهي فنانة متخرّجة من المدرسة العليا للفنون الجميلة والمشرفة على رواق "الزوار للفن"، حيث أكدت أنّ معرض قسومة عالم مختلف يستلهم روح إبداعه من عمالقة الفن، منهم باية وبيكاسو ومجموعة "الوشام"، وبه تستوطن الألوان الداكنة ذات البعد غير المحدود، أي أنّها لا تلتزم بتشكيلة بعينها من الألوان. وأضافت المتحدّثة أنّ المعرض استعرض أيضا جانبا من الطرافة والحكاية، إذ أنّ كلّ لوحة هي حكاية بحد ذاتها، ناهيك عن التراكيب البشرية المفكّكة أحيانا والمجمّعة أحيانا أخرى، مشكّلة هوية إنسانية ذات خصوصية فنية، مشيرة إلى أنّ المعرض يستهوي الجمهور، خاصة النخبة منه.