من خلال كتاب ”أبي، ماذا فعلت في الجزائر؟”

برانش تؤرخ للصمت الفرنسي حول حرب التحرير

برانش تؤرخ للصمت الفرنسي حول حرب التحرير
  • 968
دليلة مالك دليلة مالك

قامت الكاتبة والمؤرخة الفرنسية رفائيل برانش بعملية تأريخ لفترة زمنية هامة من تاريخ الجزائر الحديث، دام حوالي عشرين عاما، يتعلق ببحث وتقصي أمر لاحظته، عن الصمت الذي دب في الطرف الفرنسي المحتل، فور نهاية حرب التحرير في الجزائر ورحيل المحتل، في مؤلفها الصادر العام الماضي بعنوان ”أبي، ماذا فعلت في الجزائر؟”، عن دار ”لاديكوفرت”، حاصل على جائزة ”أغوستين تايري” الفرنسية في العام نفسه.

في 512 صفحة، حددت المؤرخة وأستاذة التاريخ المعاصر بباريس، والمختصة في العنف بالحقبة الكولونيالية، فترة 1954 إلى 1962 محورا لدراستها، وقد عنونته ”أبي، ماذا فعلت في الجزائر؟”، أضافت إلى هذا العنوان جملة ”تحقيق حول صمت عائلي”، لكسر لهذا الصمت، كما أنها تتعلق بكونها تأريخاً لما يجيء بعد هذا الكسر أو الخرق، أي الكلام الذي يستوي كإجابة على استفهام عن الحوادث والوقائع التي عاشها، والتي مارسها عدد من الجنود الفرنسيين في حرب الجزائر في نهاية خمسينات القرن المنصرم وبداية ستيناته. بالتالي، يمكن القول إن برانش تبحث في الصمت داخل عائلات هؤلاء الجنود قبل أن تفك أَسرَهم منه، محاولة كتابة تاريخه، تاريخ صناعته، وتاريخ الانصراف منه أيضاً.

حسب مقال صدر مؤخرا في موقع إلكتروني عربي، فإنه في حال استندت برانش إلى استفهامها عما فعل جيل الأهل في الجزائر، فهي، وفي الوقت نفسه، تطرح سؤالا عن صمته. ففضلا عن استفهامها ”أبي، ماذا فعلت في الجزائر؟”، هناك سؤالها ”كيف أؤرخ الصمت؟”. فعليا، وعند وضع الجهد التحقيقي جانبا لبرانش، يصح الاعتقاد أن سؤالها ذاك هو أفضل ما في كتابها، حيث أنها، وعلى أساسه، تحاول الإمساك بسبل وأدوات إنتاج الصمت، إذا صح التعبير.

فطوال صفحات الكتاب، هناك إشارات متعددة إلى هذه السبل والأدوات، وهي لا تظهر فعلياً سوى على ضوء سبل وأدوات التراسل بين الجنود في حربهم الجزائرية وذويهم في البلاد. إذ تخصص برانش قسطا من تأريخها للرسائل والصور التي كان يتبادلها الطرفان من أجل الإبقاء على الصلات بينهما، مثلما أنها، وفي إطار هذا التخصيص، تبرز كيف كانا يتقاسمان هما بعينه، وهو تناقل العَيش بتفاصيله، أكان الذي يدور في الجزائر أو في فرنسا. في الواقع، ما رمت إليه برانش من ذلك التخصيص، هو تصويب النظر إلى أن الطرفَين كانا يتداولان مجريات الحرب الجزائرية، ومجريات الانخراط في عنفها بارتكابه سجنا وتعذيبا وقتلا من قبل هؤلاء الجنود الفرنسيين، إلا أنه، وفي الوقت نفسه، تداول ضئيل، إذ إنه -وهنا بداية الصمت- غالباً ما كان يحضر على الهوامش أو مواربة حتى، إلى درجة غيابه عن التراسل وحديثه أيضاً.

أضاف المقال ”لكن، وإن كان الصمت يبدأ من هذه الناحية، فهو يتبلور أكثر في نواحٍ أخرى، تلك المرتبطة بعودة الجنود إياهم إلى وطنهم. فيكاد ذلك الصمت يكون صفة، أو بالأحرى مَركَبة تلك العودة، التي حملتهم لاحقاً إلى تأسيس عائلاتهم بالاستناد إليها. هنا، ثمة ملاحظة لا بد من تسجيلها في شأن تأريخ برانش لهذه العودة، وهو كيفية تقديمها لها بطريقة دراماتيكية. فها هم بعض الجنود، وما إن صاروا آباء، حتى مضوا إلى حرق أو رمي الرسائل التي كانوا قد بعثوا بها إلى زوجاتهم أو حبيباتهم آنذاك. أما بعض أغيارهم، فقبل أن يصيروا على شاكلتهم، استقبلتهم المستشفيات في أقسام الطب النفسي، حيث أمضوا وقتا قصيرا ليتعافوا، أو هكذا ظنوا، لاسيما حين يكون التعافي بالإنكار، راجعين إلى ”حياة طبيعية”، التي تُعد الانتحارات والكوابيس والانعزالات من ركائزها.

على هذا النحو، انطلق الجنود، وبصحبة عائلاتهم، إلى الصمت، الذي سرعان ما حضوا أولادهم عليه، حيث نقلوه لهم، وجعلوا من حربهم، والمشاركة فيها، موضوعا غير موجود. أما أرض هذه الحرب، أي الجزائر، فبقيت مستترة، رغم جلائها في لغة الآباء، أي العبارات التي جلبوها معهم من تلك الأرض، ومعها بعض الأغراض من أوان ولوحات وثياب وغيرها. فظلت الجزائر، في عيون أولاد هؤلاء الجنود، بعيدة، بل مجهولة، مع أنها قريبة بالعبارات والأغراض منهم، أو مع أنها بالأحرى حولهم.

على أن برانش، وخلال تأريخها للصمت، تؤكد أنه ليس مزاولة عائلية فحسب، بل إنه سياسة رسمية أيضا. فالدولة آنذاك لم تقر بأن حرب الجزائر هي حرب، بل قدمتها كصراع، بالتالي، فالعائدون منها ليسوا محاربين قدامى، بل مجرد جنود وقد أتموا خدمة العلَم. في النتيجة، لم تؤد الدولة، بسياستها هذه، سوى إلى جعل عودة الجنود مبهمة، كما لو أنهم لم يذهبوا إلى الحرب، ولم يرجعوا منها. بالطبع، بهذه السياسة كانت الدولة تريد طمس تلك الحرب، وفي طريقها إلى تحقيق ذلك، طمست كل سِيَر هؤلاء، التي فتشت فيها برانش، فوجدت أن تلك الحرب ما زالت حاضرة هنا، كما أنها تريد أن تنصرف من تغييبها.

تشتغل برانش (1972ـ) حاليا أستاذة في التاريخ المعاصر، ورئيس تحرير مجلة ”القرن الـ21”، وعضو في المجلس الأعلى للأرشيف بفرنسا، وعضو في لجنة اليقظة أمام الاستغلال العمومي للتاريخ، ولها عدة مؤلفات منها ”التعذيب والجيش إبان الحرب الجزائرية 1954ـ 1962”، ”عدالة وتعذيب في الجزائر العاصمة 1957” الذي كتبته مع سيلفي تينولد، وكتاب ”حرب الجزائر: تاريخ هادئ”، وغيرها.