”الكاميرا المخفية” من الطرافة إلى الترهيب

المصافحة استبدلت بالصراخ والضرب

المصافحة استبدلت بالصراخ والضرب
  • القراءات: 955
مريم. ن مريم. ن
حادت برامج ”الكاميرا المخفية” عن رسالتها التربوية والترفيهية التي اشتهرت بها منذ عقود، والتي ارتبط بها الجمهور العربي إلى درجة أنّها كانت جزءا من يومياته الرمضانية، يجد فيها كلّ ما قد يروّح عن النفس دون ضجيج أو ترهيب أو صراخ، استطاعت بسلاسة أن تشدّ العربي إلى هويته وقيمه بأدوات سخرية محلية وأصيلة بلغت السهل الممتنع في الضحك بعيدا عن الافتعال والتكرار والتقليد الأعمى. كان الجمهور العربي ينتظر كاميرته الخفية كلّ رمضان ليرى من خلالها نفسه دون أقنعة، فهذه الآلة المصوّرة ما كان عليها سوى أن تنزل إلى المجتمع لترصد هفواته وتمزح معه في حميمية، لتجعل المشهد الأخير قهقهة وعناقا وتصافحا، لينتهي الأمر بسلام.
الجزائر مثلا، عرفت هذه الحصص في السنوات الأولى من الاستقلال، كانت تبثّ في سهرات رمضان على الشاشة بالأبيض والأسود، وكان بطل هذه الحلقات المخرج والمنشط الكبير الحاج رحيم، حيث كان يسير في شوارع العاصمة ليترصّد ضحاياه وغالبا ما كانت فكرة الحصة أو نقل ”المقلب”، تبنى على قيمة اجتماعية أو أخلاقية ما منها مثلا التضامن أو مدّ يد المساعدة للغير، بالتالي اختبار مدى وجود وانتشار مثل هذه القيم في المجتمع.
الحاج رحيم كان مثلا يعرض مريضا فقيرا على الناس ويستعطفهم ليساعدوه أو كان يجلب شاحنة ويقول بأنّ مريضا أو ميتا فيها يجب دفنه وهكذا، ناهيك عن المقالب التي كانت تنصب للتجار والمارة والقادمين من مدن داخلية خارج العاصمة، وهكذا اكتسب الحاج رحيم شهرة كبيرة تعدّت حدود الوطن، وكان التلفزيون الوطني في فترة غير بعيدة يعيد بعض حصص هذه الكاميرا على الجمهور ليعيد اكتشاف ”أيام النية” (حسن الظن بالآخر) وليرى حياة الجزائريين البسيطة في ستينيات القرن الماضي.
بعدها تسلّم مهمة ”الكاميرا المخفية” جيل آخر لا يقلّ موهبة، فظهرت هذه الحصة بقوة عبر محطة وهران الجهوية للتلفزيون وكان من نجومها الفنان ”حمو” الذي عرف بها وغالبا ما كان يتعمّد إظهار طيبة وتسامح وكرم الجزائريين البسطاء الذين لا يتردّدون في تقديم الخير والمساعدة حتى للذين لا يعرفونهم، في إحدى الحلقات زار حمو صيادين بسطاء كانوا يشتغلون بميناء صيد في ضواحي وهران، وعمل المستحيل لأجل نرفزتهم ومضايقتهم وكان أحيانا يبلغ الأمر به إلى درجة أن يتصابى ويتنرفز، لكنّهم كانوا يهدئونه ويمسحون على كتفه ويعطونه من حقهم كلّما طلب منهم شيئا، حتى رغم عوزهم، لأنّه كان بالنسبة لهم ذلك الضعيف الذي يجب مساعدته، وحينما انتهى حمو قبّلهم وخصّص لهم حصة خاصة مباشرة بعد العيد في استوديوهات المحطة ليكرّمهم على المباشر ويتحدّث معهم عن القيم الأصيلة لمجتمعنا. عرفت ”الكاميرا المخفية” أيضا من خلال مقالب طريفة لفنّانينا بأساليب ذكية وراقية وكان كلّ فنان ورقة مفتوحة أمام الجمهور، دون أن يمسّ قيمة الفنان أو خصوصيته.
في المقابل، راجت أيضا بعض حصص ”الكاميرا المخفية” العربية التي اكتشفها الجمهور الجزائري منذ سنوات طويلة وكانت الكاميرا التونسية هي السيدة، حيث وظّفت كلّ الفنون والتقنيات واستخدمت الكوميديا بتمكّن كبير، منها مثلا استخدام مقلّدي الأصوات للإيقاع بالضيوف، كما حدث ذات مرة حين استضيف منشط وإعلامي كبير من الإذاعة التونسية شهد كلّ الأحداث التي مرت بها تونس وشهد ثورة الجزائر من إذاعة تونس، وقام بعدّة أعمال ليسأله منشّط ”الكاميرا المخفية” قائلا؛ ”سمعت أنّك أجريت حوارا مطوّلا على أمواج إذاعة تونس مع الفنان الكبير محمد عبد الوهاب، كان ذلك في نهاية الخمسينات، فهل هذا صحيح؟”، فأجابه الإعلامي ”نعم”، وهنا أدّعى المنشّط أنّه سيسمع الضيف جانبا من حوار حصل عليه من أرشيف الإذاعة، بينما في الحقيقة لم يكن سوى تقليدا لصوت الضيف وصوت عبد الوهاب، والطريف أنّ هذا الأخير أجاب حين سأله الإعلامي التونسي عن الأصوات التي تعجبه في الوطن العربي في تلك الفترة، أجاب أنّ على رأسها الشاب خالد، وهنا ذهل الضيف، لكنّه لم يتفطّن للمقلب حتى أخبره المنشط في الأخير، ليسقط من الضحك والقهقهة على الرغم من تقدّم سنه.
كل ما كان ولّى وأصبح زمنا ماضيا أخذ معه هذه القيم لتترسّخ قيم أخرى دخيلة ساد فيها الصراخ والترهيب والتهديد بالقتل حتى في أجواء السماء، كما أنّ الكاميرا لم تعد تهتم بهؤلاء البسطاء ولا المجتمع ولا قيمه، بل كلّ الضحايا من نجوم الشباك ومن الحسان والحسناوات الذين يتخلّون عن ”البريستيج” أمام تهديد أسد أمام مصعد الفندق أو في طائرة في أعالي السماء، ولا فرق في ذلك بين الشاب والشيخ وكثيرا ما تنتهي الحصص بالانهيارات الجماعية والضرب والشتم وحتى الكلام البذيء وتتعزّز بذلك العداوات ونسمع عن رفع دعاوى أمام المحاكم والتعويضات المالية، ناهيك عن المشاهد التي تقبض أنفاسه ولا يرى سوى منكر يجعله يلعن هذه الحصص.
المؤسف أنه ورغم ما تعانيه منطقتنا العربية من ويلات الإرهاب، إلا أنّ هذه الأخيرة أصبحت ملهمة لهذه البرامج دونما استحياء، إذ يتم اختطاف الضيوف كالرهائن وترويعهم وأصبح منشّط البرنامج ”إرهابيا”، وكان من المفروض ألا يكون مجالا لهذا، مراعاة لما يعيشه المواطن العربي. الترويع مستمر للأسف، واستهدف حتى بطلنا مجيد بوقرة الذي كان شجاعا، لكنه انتفض في الأخير لينتقم ولو بمزاح ممن اتّخذ منه رهينة في الصحراء. هكذا لم تعد الكاميرا هي من تنزل إلى الشارع العربي لتربي وترصد ما يقع من تحوّلات في سلوك المجتمعات، بل أصبحت تصوّر في الصالونات الفاخرة والفنادق والطائرات والاستوديوهات بكثير من البهرجة، لتحصد الإعلانات التي لا لغة لها سوى لغة ”البزنس”.