نمط غنائي يوثّق حياة الليبيّين بجرأة

"المرسكاوي" الفن المنبوذ الذي يضاهي الراي

"المرسكاوي" الفن المنبوذ الذي يضاهي الراي
  • القراءات: 790

تحوّل المرسكاوي إلى لون غنائي طغى على الساحة الليبية، وبات له تأثيره الواضح على دول الجوار؛ حيث يتردد في الملاهي والأفراح، وزادت وسائل الاتصال الحديثة من انتشاره بشكل واسع، وأصبح من الطبيعي أن يعيد فنانون غير ليبيين تسجيله، مستفيدين من غياب قوانين حماية الحقوق الفنية والملكية الفكرية في ليبيا. "المرسكاوي" هو فن الحياة بمختلف تجلياتها، تحوّل إلى ديوان الواقع الليبي نظرا لقدرته الفائقة على تحمّل مختلف المضامين والمواضيع.

وقد استطاع أن يتجاوب مع الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، وأن يواكب كل التحولات التي عرفتها البلاد. وزاد انتشار تقنيات الاتصال الحديثة من رواجه، لا سيما بين فئة الشباب الباحثين عن الألحان الخفيفة والكلمات الحارقة. هناك خلاف حول أصل تسمية "المرسكاوي"؛ إذ يرى فريق أنها تحريف لكلمة مرزقاوي نسبة إلى مرزق. وفريق آخر يقول إنها نسبة إلى الموريسكيين، وهم المسلمون الذين بقوا في الأندلس تحت الحكم المسيحي بعد سقوط الحكم الإسلامي للأندلس، وأُجبروا على اعتناق المسيحية، أو ترك الأندلس، ثم أجبرتهم الحكومة الإسبانية ما بين 1609 و1614، على مغادرة المملكة إلى شمال إفريقيا في هجرة جماعية.

وقد كان عدد الموريسكيين يناهز 350 ألف نسمة، انتشروا في المغرب والجزائر وتونس، ووصلت بعض عوائلهم إلى طرابلس وبرقة وحتى درنة، وقد حملوا معهم فنونهم وعاداتهم وتقاليدهم في الطبخ واللباس، وعلومهم في الزراعة والصناعة وغيرها، وكان لهم أثر كبير في المنطقة. وأما مرزق فهي مدينة في جنوب غرب ليبيا مفتوحة على الصحراء ولها مسالك تجمع بين شمال ووسط إفريقيا، كانت محطة القوافل واستراحة التجار والعابرين، وملتقى الثقافات الإفريقية والأمازيغية والعربية الإسلامية. وكانت عاصمة دولة أولاد امحمّد بإقليم فزان التي استمر عهدها من 1550 إلى 1813 ميلادي.

وتنتسب إلى مؤسسها الشيخ امحمد الفاسي، وهو ينتمى إلى السلالة الإدريسية، وبالتحديد إلى البيت العمراني الجوطي، الذي قال عنه ابن خلدون: "فليس في المغرب في ما نعلمه من أهل هذا البيت الكريم، من يبلغ في صراحة نسبه ووضوحه، مبالغ أعقاب إدريس هذا من آل الحسن. وكبراؤهم لهذا العهد بنوعمران بفاس من ولد يحيى الحوطي بن محمد يحيى العدام بن القاسم بن إدريس الأزهر بن إدريس الأكبر، وهم نقباء أهل البيت هناك، والساكنون ببيت جدهم إدريس، ولهم السيادة على أهل المغرب كافة، حسبما نذكرهم عند ذكر الأدارسة".

وقد صادف أن تأسيس الدولة كان قبل عام واحد من الاحتلال العثماني لطرابلس، وهو ما أدى إلى صراع بين الطرفين؛ حيث سعى العثمانيون إلى بسط نفوذهم على فزان، وخاضوا حروبا عدة من ذلك، ولا سيما في عهد يوسف باشا القره مانلي. ولم يتمكنوا من احتلال مرزق إلا في عام 1813، عندما نجحت الجيوش بقيادة محمد المكني، في هزم دولة أولاد امحمد، وقتل السلطان محمد المنتصر، وإنهاء حكم الشرفاء في فزان. وقد بقيت مرزق عاصمة للإقليم حتى عام 1951، عندما نقلت أسرة سيف النصر من أولاد سليمان والتي تولت الحكم آنذاك، مركز العاصمة إلى سبها في إطار الحكم الفيديرالي للمملكة الليبية الوليدة، قبل إلغاء الفيديرالية عام 1963.

وعُرفت مرزق بسورها الطيني وأبوابها وقلعتها وبساتينها وواحاتها، وبتنوع الثقافات والفنون، ومن ذلك الفن المرسكاوي الذي انتشر، لاحقا، في مختلف أرجاء ليبيا، وخاصة في مدن المنطقة الشرقية كبنغازي ودرنة، كما انتشر في غرب البلاد. وتؤدَّى أغاني المرسكاوي على مقام واحد، تندرج تحته عدة أنواع أخرى، وعادة ما تتكون القطعة من موال، ثم أبيات الأغنية، وصولا إلى "التبرويلة" التي يقابلها البرول في المألوف الأندلسي، وهي عبارة عن تسارع للإيقاع والنغمات الراقصة بكلمات خفيفة، والتي قد لا تكون ضرورية في المرسكاوي، ولكنها مهمة في منحه صفته الاحتفالية.

وكانت الإذاعة الليبية سجلت منذ افتتاحها عام 1957، عددا من أغاني المرسكاوي بعد أن كلفت شعراء غنائيين بارزين، بكتابة نصوص جديدة. كما تم توزيع تلك الأغاني على فنانين بارزين آنذاك، من بينهم الفنان محمد مرشان الذي توفي في 2015، والذي كان زار مناطق فزان للنهل من تراثها، وكان يرى أن الأنماط الموسيقية الرائجة في طرابلس وبنغازي ما هي إلا صدى المرسكاوي القادم من مرزق، وبعض المناطق الأخرى في فزان مثل غات وهون وسبها.

ووفق المتخصصين، يتشكل لحن المرسكاوي من طالع بثلاث شطرات وكوبلي من ست، أو من طالع بشطرتين وكوبلي من أربع. وأما مواضيع الغناء فمختلفة، وتتراوح في الغالب، بين الحب والحنين والوصف، وباتت خلال السنوات الماضية جريئة في مفرداتها، ولها قدرة على تصوير المشاعر بدون عقد؛ فالمرسكاوي الحالي هو فن متمرد، مثله مثل "الراي" في الجزائر والمغرب.

وجاءت نزعته إلى التمرد من التهميش الرسمي الذي تعرّض له خلال العقود الماضية، ليبقى رهين المناسبات الخاصة وأشرطة الكاسيت. كما إنه فن يطغى عليه الارتجال، ويرتبط بقدرة مؤديه على نظم الكلمات أو على الاستفادة من مدوّنة الشعر الشعبي الثرية في البادية الليبية. ورغم الانتشار الواسع لهذا الفن يبقى منبوذا من فئات مهمة من المجتمع، ترى فيه ميلا إلى الابتذال بسبب الكلمات التي يتم استعمالها أحيانا، والتي قد تحمل من الجرأة ما يجعلها تصدم الأذن المحافظة. كما إن تكرار الألحان قد يكشف عن فشل الفنانين الحاليين من تقديم تجارب إبداعية ترقى إلى ما قدمته الأجيال السابقة، التي كانت تنشط ضمن مؤسسات الإعلام الرسمي.

ويبقى المرسكاوي محدودا من الناحية الموسيقية بسبب طبيعة الدائرة الضيقة للمقامات في موسيقى البادية؛ فلا تكاد تتجاوز مقامي البياتي والرصد، لكن الزخم الحقيقي جاء من التنوع والثراء النغميين في طرابلس والجنوب، لكن أغلب الباحثين يرون أن المرسكاوي الحالي هو تحريف للمرسكاوي الأصلي بنفسه التطريبي، الذي كان أقرب إلى الموشحات الأندلسية، ولكن بتداخلات رشيقة مع الروح الإفريقية.

وتعتمد موسيقى المرسكاوي على عدد بسيط من الآلات، منها الدف والدربوكة، و"المقرونة"، وهي مزمار تقليدي تُستخدم فيه قصبتان متساويتان في الطول، تكونان مفتوحتين من الطرفين، وتُربط الواحدة في الأخرى بواسطة جلد الماعز. وهناك نوعان من شجر القصب؛ نوع رفيع يُصنع منه "البالوص"، أما النوع الغليظ فيُصنع منه ساق المقرونة أو المزمار، ثم تثبيت "الردادة" من ساق المقرونة، بجلد الماعز.

ويتم ثقب ساق المزمار أو المقرونة بقطعة من الحديد خمسة ثقوب، وتثبيت المقرونة بقرني البقر بقطعة من جلد الماعز. وخلال العقود الماضية طغى الأورغ والأكورديون، وأصبحا الآلتين الأكثر استعمالا في المرسكاوي إلى جانب آلات الإيقاع العادية، وتحوّل هذا الفن إلى ظاهرة في ليبيا امتدت إلى خارجها، خاصة إلى دول الجوار. وقدّم حميد الشاعري تصورا جديدا للمرسكاوي من مقر إقامته في مصر. وأعاد فنانون تونسيون تسجيل عدد من أغاني المرسكاوي، آخرهم الفنانة فائزة المحرسي، التي قدّمت أغنية "يحسابونا طحنا".