ملتقى "المقاومة الثقافية"

الثورة التحريرية.. قيم ثقافية وفنية ومبادئ إنسانية

الثورة التحريرية.. قيم ثقافية وفنية ومبادئ إنسانية
  • القراءات: 617
نوال جاوت نوال جاوت

شهدت الجلسة العلمية الأولى لأشغال المؤتمر الدولي "المقاومة الثقافية خلال الثورة التحريرية، نضال من أجل التحرر"، تقديم عدد من المحاضرات التي اقتربت من مختلف الأوجه؛ الفن والفكر. وأجمع المتدخلون على البعد الثقافي والإنساني للثورة التحريرية، الذي دفع كبار مثقفي العالم إلى الالتفاف حولها، ومساندة قيمها السامية، فضلا عن أن الثورة التحريرية شكلت بقيمها الثقافية والإنسانية، "محطة حاسمة وجوهرية" في تاريخ مكافحة الكولونيالية؛ إذ كانت "محل احترام وتمجيد من طرف كبار مثقفي العالم، بفضل ما أنتجته من قيم ثقافية وفنية، ومبادئ إنسانية، ارتكز عليها كفاحها ومقاومتها ضد الاستعمار".

في هذا الصدد، توقف الدكتور الباحث والمؤرخ غاليي نازارينو في محاضرة "جيوفاني بيريللي، التأسيس بين المقاومة الثقافية المناهضة للاستعمار وتحرير الثقافة من الطرح الاستعماري"، عند ملامح من الدعم الإيطالي للثورة التحريرية؛ من خلال تجربة صديق الثورة، الناشر والمثقف الإيطالي جيوفاني بيريلي، الذي ساند القضية الوطنية العادلة، والكفاح التحرري الجزائري؛ على غرار نخبة من أهم مثقفي العالم، الذين فضحوا ممارسات التعذيب الوحشية ضد الجزائريين، وساهموا، بذلك، في تدويل القضية الجزائرية، وحشد وتعبئة الرأي العام الدولي، مشيرا إلى أن بيريللي "من أبرز المثقفين الذين التزموا بمساندة الثورة الجزائرية؛ إذ لم تقتصر المقاومة والصمود على صعيد الكفاح المسلح والعمل الدبلوماسي فقط، بل أثمرت قيما ثقافية، أبهرت العالم". وقال إن بيريللي "اعتمد على الثقافة كعامل هام لنسج جسور ثقافية بين الجزائر وإيطاليا، وإيصال صوت الثورة للعالم".

النضال الثقافي لدار النشر "إينودي"

أبرز نازارينو أن بيريللي "عمل على دعم الثورة الجزائرية من خلال النضال الثقافي لدار النشر "إينودي"، التي أسسها لدعم حركات التحرر في العالم؛ حيث قام بعد لقائه مع صديق الثورة المناضل فرانس فانون في 1955، بإصدار مؤلَّف يضم شهادات المجاهدين الجزائريين، وإبراز القيم الثقافية والإنسانية للثورة التحريرية". وأضاف أن بيريللي ساهم ضمن جهود التضامن الإيطالي مع القضية الجزائرية وكفاح التحرير الوطني، مساهمة فعالة؛ حيث التزم التعريف بوجهة نظر الجزائريين. وقام بنشر ترجمة لمؤلَّف المناضل هنري علاق "المسألة" سنة 1958، ومؤلَّف بعنوان "رسائل الثورة الجزائرية"، وغيرهما من الكتب. وفيما تطرق الباحث والمؤرخ الدكتور فؤاد سوفي لـ "كتابة أول نوفمبر، تاريخ حدث مؤسّس"، استحضر الفنان التشكيلي الطاهر ومان "تجسيد الثورة الجزائرية في أعمال بعض الفنانين التشكيليين الجزائريين والعرب". وقال إن مآثر وملاحم مقاومة الشعب الجزائري جسدها من صنعوها "حسب تعابيرهم واجتهاداتهم المختلفة. وثابروا ونجحوا في توصيل نداءاتهم واستنكارهم ما يعانيه الشعب الجزائري جراء الغزوات الاستعمارية". وأشار إلى أن مع بزوغ فجر ثورة التحرير المباركة سنة 1954، التحقت جحافل من المبدعين في شتى التعابير الفنية والأدبية، مرفقين بأسلحتهم المعرفية، ليلتفوا حول المجاهدين الثوار .. وهكذا استمر الجهاد باللون، والخط، والقلم، والريشة، والصورة والحركة.. صُمّمت الشعارات والرايات، ونُسجت الزرابي بمختلف الأشكال والعلامات، منشدة الثأر ضد العدو مغتصب الثورة. ورسم التشكيلي نداء الشعب الثائر على مختلف الخامات، فكان الرسام بجانب المجاهد، يخط ويصمّم المطبوعات، ويحاكي بلوحاته صراخ ألم الشعب.

الريشة لرسم المعاناة والتضحيات

استحضر المحاضر بعض من تداولت أسماءهم سجلات الذاكرة الإنسانية، الذين جسّدوا يوميات المجاهدين واللاجئين الذين فروا من طغيان العدو الفرنسي. أسماء غنية عن التعريف، أمثال الرسام المجاهد لحسن عبد المالك، الذي استُشهد سنة 1957 بجبال الأوراس. والمرحوم النحات محمد دماغ، وامحمد إسياخم، ومحمد خدة، وفارس بوخاتم الذي اتسمت جل رسوماته بوصف يوميات المناضلين واللاجئين، ومآسي خط موريس المكهرب، فرغم نجاته من الموت ظل فارس بوخاتم يرسم وكان يعاني من ألم جراحه، فآنسَه فرانتز فانون الذي تأثر بوضعيته، وانبهر من تعبيرية رسوماته التسجيلية لمعاناة اللاجئين المتشردين، موضحا أن صدى ثورتنا ألهم العديد من التشكيليين العرب والأجانب، ففاضت قريحة الأدباء والرسامين متأثرين بالواقع الأليم الذي زلزل الأمة العربية؛ كالرسام العراقي محمود صبري ولوحته "ملحمة الجزائر"، وعلي عيسى بتونس الذي أرّخ في لوحته "الطفل المفقود"، معايشته مجزرة ساقية سيدي يوسف سنة 1958، ناهيك عن فنانين عالميين نددوا بريشتهم بالمأساة؛ مثل بيكاسو، وصولا إلى أوندري ماسون، وإدوار بينيو، وكيجنو لدسلاس، وعبود شفيق، وعصار ناصر، وغيرهم من المبدعين عبر المعمورة. ومع افتكاك السيادة الوطنية سنة 1962، يشير المحاضر، ظهرت مواهب رسامين جزائريين ناشدوا بهجة الانتصار في لوحاتهم ومنمنماتهم ومنحوتاتهم، ودُوّنت عبر أعمالهم ملحمة قرن ونصف قرن من النضال المستمر. "ولاتزال متاحفنا تُثرى من يوم إلى آخر بالنتاج التشكيلي، مخلدين روح الأرض الغالية؛ كمَثل قويم تقتدي به الإنسانية جمعاء"، داعيا إلى تجنيد باحثين ومتطوعين للبحث عن اللوحات التي تطرقت للثورة الجزائرية، وخلّدت جهاد الشعب الجزائري، وهي كثيرة عبر المتاحف، أو تابعة لبعض الرسامين بهدف المحافظة على الذاكرة الوطنية المرسومة.

الكاميرا لتجاوز حدود المكان والزمان

عند تطرقه لتجربة السينمائي روني فوتيي، قال الأستاذ الطيب ولد لعروسي، إنه "بطل عملاق، تفنّن في تقنيات الكاميرا؛ كسلاح تجاوز به حدود المكان والزمان، يحذوه الالتزام بخدمة قضية عادلة. وقد تحدى الكثير من أقرانه ومواطنيه الذين كانوا، في المقابل، يعملون على إبقاء الجزائر فرنسية بقوّة الحديد والنار، بينما كان سلاحه هو كاميرته التي عانقت بطولات المقاومة الجزائرية، وكشفت فظاعة الاستعمار". وتابع أن فوتيي منذ التزامه بنقل صورة الجزائر المكافحة، "تحمّل رقابة الآلة العسكرية وجهاز قانونها، كاشفا المسكوت عنه من مجازر وتجاوزات وحشية وهمجية، مبيّنا حجم المعاناة التي يتخبّط فيها شعب ثار من أجل استرداد حقوقه وأرضه المغتصبة لمدة قرن ونصف قرن من الزمن". واستند ولد لعروسي في بحثه عن سيرة مسار روني فوتيي، على كتاب السيرة المهنية والإنسانية التي ألّفها المخرج عن تجربته بعنوان "كاميرا وطنية" (1998)، الذي يعطي صورة حقيقية عن ظروف العمل في المناطق الخطرة؛ حيث تهديدات المستعمر الفرنسي، وحيث واجه الثوار مصائرهم بشجاعة وصبر"، مشيرا إلى أن فوتيي انتبه إلى "أهمية الصورة ودورها في كتابة التاريخ وتسجيل الأحداث". وأضاف أن في الوقت الذي كانت فيه الكتابات الكولونيالية تنظر إلى الجزائري على أنه مجرد فرد بلا معنى، "يأتي فوتيي ليبرز الدور الحقيقي للإنسان الجزائري، عبر أفلامه؛ حيث استطاع أن يوصل الرسالة التي تأسست عليها الثورة".

واعتبر الأستاذ ولد العروسي أن الحديث عن فوتيي هو مناسبة أيضا للحديث عن كل الأجانب والأوروبيين الآخرين، الذين ناصروا الثورة التحريرية؛ من أمثال المحامي هنري علاق، وفيرنان إيفتون، وغيرهما ممن ساندوا الثورة، ودافعوا عنها بشتى الوسائل بدون تردّد أو خوف من المضايقات الفرنسية تجاههم أو تجاه ذويهم.

الفن والثورة تداخلٌ وتشابك

"مساهمة المسرح الجزائري في دعم الحركة الوطنية والثورة"، هو الموضوع الذي خاضت فيه الأستاذة حورية جيلالي من جامعة وهران. وقالت إن مستويات العلاقة بين الفن والثورة متداخلة ومتشابكة. وأضافت أن المسرح الجزائري ساهم إبان الحقبة الاستعمارية، في إيقاظ الشعب، وتوعيته وتحسيسه بأهمية النضال، ودعم الحركة الوطنية بصفته وسيلة مقاومة، تستعمل الفن في المواجهة؛ سواء كان ذلك بكتابة مسرحيات باللغة العربية الفصحى بفضل جهود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أنتج أعضاؤها العديد من المسرحيات، أو باستعمال الدارجة، التي حققت عدة نجاحات في استمالة الشعب الجزائري لحضور هذه المسرحيات؛ مما لقي تجاوبا بارزا من قبل الجمهور، الذي عبّر عن مواقفه المؤيدة لتلك الأفكار التي احتوتها أهم المسرحيات، التي أبرزت طابع المقاومة والنضال الذي ميّزه، وجعله لا يكتفي بكونه وسيلة للفرجة والمتعة، بل تعدى ذلك إلى تسريب أفكار الوطنية والمقاومة، وعكسِ معاناة الشعب وأهم انشغالاته، ليصبح مجالا لتربية الشعب، وإعداده لدعم مجهودات الحركة الوطنية الجزائرية.