فارس شاعر، متصوف وداع للسلم

الأمير عبد القادر الرجل الذي عاش حيوات كثيرة

الأمير عبد القادر الرجل الذي عاش حيوات كثيرة
  • القراءات: 759

في كل ذكرى للأمير عبد القادر الجزائري، يتكلم الجميع عن الرجل المتعدد؛ الفارس الشاعر والمتصوف ورجل الحرب والسلم، ويستعيد العالم طيفا من خط أولى تعاليم حقوق الإنسان بنصها المعاصر، ويجمع الأعداء والأتباع على أنه طفرة في التاريخ الإنساني، من خلال حضوره على صفحات التاريخ والأدب والتصوف والسياسة والإلاستراتيجيات الحربية وحماية الأقليات، إنه يكاد يكون الرجل الذي عاش حيوات كثيرة.

 

ولد الأمير عبد القادر في 6 سبتمبر 1808، وتوفي في 26 ماي 1883، أمضى سنوات حياته يصنع الأحداث ويروض الأقدار، إلى أن وافته المنية بدمشق التي استضافت سنوات المجد الثاني بعد مجد المعارك.

لعل الأمير رجل ينظر إليه الناس من جهات مختلفة، مثل معلم شاهق وكبير لا يمكن الإحاطة بكل جهاته، فالذي يعرفه شاعرا ويولع بقصائده ليس بالضرورة الذي يسلك طريقه في التصوف، والذي يؤمن بحنكته الحربية لا ينتبه إلى مواقفه الإنسانية وتفوقه الدبلوماسي، هكذا توارث الناس الأمير بصور مختلفة كأنه حشد من الأمراء.

رغم ذلك، شد الرجل إليه الباحثين في العالم، وشيد مكانة مهمة في التاريخ الإنساني، فصارت له مدن باسمه وأحياء وفضاءات، ومواقف مسجلة، ويعتقد البعض أن تكرسه في ذهنية البعض كمحارب من أجل الوطن، وفي الحقيقة، كان رجلا يسعى إلى تأسيس حلم أكبر تحجيم لمكانته. 

عاش الأمير حياة الصبا، ثم حياة الحرب والتأسيس للدولة، وبعدها حياة الأسري، فحياة الاحتفاء والتبجيل، ثم الخلود، وخلال ذلك ما زال يتعبد متصوفا في خلوته ويتأمل شاعرا ويفكر حائرا، بينما يمنح العالم يقينه. 

فيلسوف في التصوف ومتصوف في الفلسفة

سنة 1858، يُكتشف العالم الأمير عبد القادر باحثا في الفلسفة، حيث صدرت رسالته ذكرى العاقل وتنبيه الغافل باللغة الفرنسية عن ترجمة لغوستاف دوقا، وهو الكتاب الذي ألفه أثناء إقامته بـ«بروسة التركية بين سنتي 1852 و1955.

خاض فيه أسئلة الفكر وواقع العالم آنذاك بكثير من التواضع، حيث نبه إلى أنه يشعر بالفخر، كونه من الأسماء التي يحتفي بها العالم والأوساط الفكرية، معتبرا نفسه في مسعى ليكون في المقام الذي وضع فيه، وفي هذا المؤلف، ينشد الأمير كمال الوجود، فيرى أن قوة العقل هي إحدى القوى الأربع التي إذا اعتدلت في الإنسان يكون كاملا، وهي قوة العقل وقوة الشجاعة وقوة العفة وقوة العدل.

ربما يندهش من يكتشف أن الأمير عبد القادر يتحدث في كتابه عن المدنية، فيعتبر أن الإنسان مدني بالطبع، ويحتاج إلى التمدن والاجتماع مع أبناء جنسه وهو لا يتنكر لولعه بالبداوة ولا ينتصر لقوم دون آخرين، فهذه الرؤية تتكلم عن التمدن وقبول الآخر في وقت مبكر، وهو خطاب ما زال متداولا إلى اليوم.

إذا كان للأمير فلسفته ورؤيته للوجود الإنساني، فله وجهة نظر وسلوك ورسوخ في التصوف، وهو ينتمي إلى مدرسة الأنسنة والتسامح التي ترتبط بالشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، بل ويمثل أحد أهم أعمدتها في القرن التاسع عشر، لهذا تعود إلى أفكاره الكثير من القيم التي تسلح بها العالم اليوم.

ترك الأمير عبد القادر كتابا مهما في التصوف، هو المواقف، الذي يعد مرجعا بالنسبة للكثير من المتصوفة، ويضم الكتاب 372 موقفا، وبرز فيه ما له من مقدرة بيانية بلاغية، لكنه أيضا، كشف عن القطب الصوفي الذي اختلى للتصوف، فأخرج للناس مواقفه، وكان فيلسوفا في التصوف ومتصوفا في التفكير.

شاعر يتكئ على الحكمة

لا يصدق الكثيرون أن الأمير الذي حمل السيف والبندقية، هو ذاته الذي يقول غزلا في زوجته، التي هي ابنة عمه، والتي تزوجها بعد قصة حب، ثم غاب عنها طوال مقاومته.

إذا كان للحب نصيب من شعره، فللتصوف أيضا نصيب، فالأمير يرتقي حالات صوفية في الكثير من شعره، حتى يكاد يكون واحدا من شعراء التصوف البارزين.

لعل للأمير قصائد فخر ومدح وحرب وأخرى في التصوف والتدين والحكمة، وأخرى في أحوال زمانه، وهي مختلفة من حيث القيمة الفنية، فبعض شعره كان أكثر اعتناء بالمعنى والفلسفة، وهو الذي جعل الكثير من القراء التقليديين للشعر يغفلونه، لكنه يبقى رغم ذلك، شاعرا اتكأ على الحكمة التي ظللت شعره وروحه وتفكيره دائما.

في كل يوم يتذكر الناس الأمير، كل واحد يذكر منه ما يروقه، إنه أحد الخالدين في التاريخ الإنساني، ورجل لا يزال بحاجة إلى التفتيش في عوالمه لاكتشاف المزيد من القيم والأفكار والمعاني التي أنتجتها أرض الجزائر.