"الجزائر 1955: مجنَّد يحتجّ على التعذيب" بمكتبة الاجتهاد

إدانة لجرائم التعذيب الموثقة في الأرشيف وذاكرة الجزائريّين

إدانة لجرائم التعذيب الموثقة في الأرشيف وذاكرة الجزائريّين
الدكتورة تسعديت ياسين مديرة الدراسات بمعهد البحث في الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس والعضو في مختبر الأنثروبولوجيا الاجتماعية في كوليج دو فرانس وعضو الأكاديمية الأمبروزيانية في إيطاليا
  • 229
مريم. ن مريم. ن

قدّمت الدكتورة تسعديت ياسين مديرة الدراسات بمعهد البحث في الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس والعضو في مختبر الأنثروبولوجيا الاجتماعية في كوليج دو فرانس وعضو الأكاديمية الأمبروزيانية في إيطاليا، أول أمس، بمكتبة "الاجتهاد" بالعاصمة، كتابا جديدا صدر عن دار كوكو للنشر بمناسبة الذكرى 80 لأحداث مجازر ماي 48 بعنوان "الجزائر 1955: مجنّد يحتج على التعذيب" ، يتضمن تقريرا مؤثرا عن التعذيب البشع الذي مورس خلال حرب التحرير. تضمّن الكتاب مقدمة جديدة بقلم تسعديت ياسين، وخاتمة كتبها المؤرخ بنيامين ستورا، علما أن الكتاب يُنشر لأول مرة في الجزائر.  

ويقف هذا الكتاب المهم - كما أوضحت الدكتورة تسعديت - على تفاصيل إنسانية جرت في خضم يوميات الأحداث المؤلمة التي عاشتها بلادنا خلال حرب التحرير، أغلبها لم تسجل ضمن الأحداث الكبرى التي وثقها المؤلفون والمؤرخون، لكنها ظلت شاهدا، وكان لها تأثيرها الذي لم يُمحَ من الذاكرة حتى بعد أن تحرر الشعب الجزائري. 

ويوثق الكتاب بعض اليوميات الجزائرية المُرة في تلك المرحلة، خاصة في المناطق المعزولة وبالقرى. ويقدّم نماذج من مآسي الناس كأفراد عاش كل واحد منهم الويلات؛ سواء كان رجلا أو امرأة أو طفلا أو حتى شيخا، كلهم كافحوا من أجل البقاء، وظل الكثير منهم يحتفظون بالألم والجرح في داخله بصمت.

وقالت ضيفة "الاجتهاد" إن الكاتب ستانيسلاس هوتين استطاع من خلال هذه الشهادات المؤثرة، أن يكشف عن بعض الجوانب الخفية من تلك الحياة البائسة. كما قدّم بالموازاة واقع الثكنات العسكرية والجنود الفرنسيين من جهة. ومن جهة أخرى عرض حياة الجزائريين العزّل، خاصة في الجبال والأرياف.  

ويفصل هذا الكاتب المؤمن بقيم دينه المسيحي والمقتنع بالمثل الإنسانية السامية في ما عاشه من صدمة حين كان شابا مجندا في الجيش الفرنسي، فهو لم يكن مدركا لما يحدث حتى وقف بنفسه على الفظائع. ويؤكد الكتاب أيضا أن هذه الجرائم بقيت حية عند الجزائريين، لم تطفئها السنين. وقالت الدكتورة تسعديت إن فرنسا كانت تدعي دوما أن الجزائر لم تكن يوما أمة، وهذا ما يتطلب احتلالها ليتحضر شعبها. لكن هذه الحجة باطلة بكل البراهين والدلائل التاريخية. 

وفي ما يتعلق بالتعذيب قالت إنه موثق في الأرشيف الفرنسي، متوقفة عند بعض الجرائم التي كانت تُرتكب باستمرار من ذلك التقتيل الجماعي، وكذا إطلاق الرهائن والمساجين، ثم إطلاق الرصاص عليهم غدرا، وكان كل ذلك بمباركة الجيش الفرنسي.

وعن الذاكرة قالت إنها مازالت حية عند من عاشوا الحرب والاستعمار. والكثير شهدوا تفاصيل مرعبة جرت عبر كامل التراب الجزائري، منها منطقة الأوراس مثلا، ناهيك عن الوحشية الممارَسة في المعتقلات كمعتقل تفلفلت الشهير، وشهادات أخرى منها وضع الأحياء في خنادق عميقة أو في مغارات رومانية، وردمهم، ومنع الماء عنهم ليشربوا بولهم. وذكرت أن عائلات جزائرية بأكملها لاتزال تحتفظ بكل ما جرى وتورثه أبنائها جيلا بعد الآخر، وهو ما يجب على المؤرخين - حسبها - استغلاله، وتوثيقه.

للإشارة، فقد اكتظت المكتبة عن آخرها بالحضور الذي فتح النقاش مطولا؛ من ذلك شهادات عن جرائم وقعت بمنطقة بني يني بمنطقة القبائل، التي حولت مدارسها إلى مراكز تعذيب وحشية. وشهد أحدهم أنه تم اعتقال في ليلة واحدة 27 رجلا وامرأة عُذبوا وقُتلوا ولم تُعرف أماكن دفنهم؛ إذ إن بعضهم رُمي من الطائرات. وذكر بالمناسبة الضابط الفرنسي المجرم قييو، الذي عذب أبناء هذه المنطقة البطلة، ليلقى جزاءه فيما بعد على يد الجزائريين.

كما أكد البعض الآخر أن التعذيب والتصفية بدآ منذ مرحلة الحركة الوطنية؛ حيث قتل مناضلو حركة انتصار الحريات الديموقراطية، وقبلها أثناء المقاومات الشعبية. وثمّنت الضيفة في ردها مساهمة أحرار فرنسا في الثورة، وحتى في بناء الجزائر بعد الاستقلال. ولاقوا، بدورهم، أبشع التعذيب. هذا الأخير الذي كان مؤسسا خاصة منذ مارس 1956؛ حيث أعطيت أوامر واضحة بإطلاق الأجهزة الأمنية والجيش، لينكل بالجزائريين أينما وُجدوا.

وأكد بعض الحضور من الكتّاب والمؤرخين والمجاهدين أن التعذيب بقي عند الكثير من الجزائريين من الطابوهات؛ لأنه يمس كرامتهم، ويؤلمهم. ووصف أحدهم التعذيب قائلا إن جزائريا ألقي عليه القبض وعُذب. ثم دُهن جسمه بقطع التونة، ليطلق الجنود عليه كلابا جائعة لتنهشه، ثم تقتلع أعضاءه التناسلية! 

وقال أحدهم إنه يخجل من وصف تعذيب والدته ابنة منطقة بجاية، بل إنه هو أيضا تم رميه في الصقيع وضربه وهو لم يتعد 8 أشهر من عمره. وبقي الأثر في جسمه حتى اليوم. وكان المجرم "سالون " يقول للجيش الفرنسي: "عذّب ولا تقل شيئا" . ومن الحضور أيضا قال أحدهم إن والده المجاهد كان يعيد أمامه مشاهد التعذيب.

وقالت السيدة تسعديت أيضا إن شابا مراهقا دفن جسمه، وترك رأسه ليُدهن بالعسل. ثم أطلق عليه النحل وبعض الحشرات، لتتوالى الشهادات، ويتفق الجميع على ضرورة استغلال هذه الذاكرة، لتكون حافزا للجزائريين لبناء وطنهم، والمضيّ به نحو التقدم.

ووُلد ستانيسلاس هوتين في رين عام 1930. وكان طالبا يسوعيا في المعهد اللاهوتي. وكان من الذين أُرسلوا للخدمة العسكرية بالجزائر سنة 1955. وقد استنكر التعذيب في كتيب "الشهود المستدعون" الذي تم توزيعه منذ عام 1957. ومنذ 2004 طاف بالمدارس والجامعات الفرنسية، ليسرد للشباب الفرنسيين ما عاشه في الجزائر.