صورة أخرى أكثر قتامة لبلاد "الحلم الواعد"

أميركا الحزينة..أفول القوة المركزية

أميركا الحزينة..أفول القوة المركزية
  • القراءات: 619
 ق.ث/ وكالات ق.ث/ وكالات

يتّفق الجميع على أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تحتل مكانة مركزية أولى في السياسة الدولية، ولا شكّ أنّها القوّة العظمى الأكثر استقطاباً للاهتمام في شتى أنحاء العالم الذي نعيش فيه منذ الحرب العالمية الثانية، وكانت قد بدت للكثير بمثابة "القوة المركزية" في عالم أحادي القطب برز بعد سقوط جدار برلين عام 1989 وتفكّك الاتحاد السوفييتي السابق وانهيار منظومته الاشتراكية. الكتب التي تعرّض مؤلفوها من محللين واستراتيجيين أمريكيين وأجانب لمختلف المسائل التي تتعلق بالسياسات الأمريكية على المستوى العالمي كثيرة. لكن هناك "نسبيا" القليل من الكتب التي يكرّسها أصحابها لتوصيف الحالة المجتمعية الأمريكية.

من هنا بالتحديد، يكتسي كتاب ميشيل فوكي، الذي عمل مراسلاً للقناة التلفزيونية الفرنسية الأولى في واشنطن خلال سنوات 2011 ــ 2016 أهميّة خاصّة، ذلك أنه يهتم بتوصيف أمريكا من الداخل، كما عرفها المؤلف عن قرب، ويحمل الكتاب عنوان "أمريكا الحزينة".

ويباشر ميشيل فوكي حديثه - شهادته عن أمريكا بالقول إن هناك "أمريكيتين" وليس أمريكا واحدة فقط، أمريكا "الأسطورة" و«الحريّة" و«الموسيقى" و«الحلم الأمريكي" الذي يتيح لكل من يؤمّ هذه البلاد أن يكسب حياته ويصعد السلّم الاجتماعي والوظيفي والسياسي حتى أعلى درجاته.

وأيضا أمريكا الثروة وآخر صيحات التجديد في عالم الصناعات والتكنولوجيات المتقدّمة، إنها أمريكا "وادي السيليكون"، عرين الصناعات والتكنولوجيات الرقمية، و«حي مانهاتن" الشهير و«محرّك بحث غوغل" عبر شبكة الأنترنت و«فيسبوك" وبورصة "وول ستريت" المالية و«هوليوود"، عاصمة السينما العالمية.

لكن المؤلف يؤكّد أنّ هناك "أمريكا أخرى" هي بالتحديد التي يطلق عليها توصيف "أمريكا الحزينة"، كما جاء في عنوان الكتاب، وأمريكا "الحزينة" هذه هي التي عاش فيها خمس سنوات كاملة وعرف خباياها وأنماط حياة أهلها تبعاً لما يمتلكه المعنيون من إمكانيات. ومن التوصيفات الأساسية التي يستخدمها أنها "البلاد التي تكرّس منذ البداية نصف ميزانيتها لتقوية جيشها وترسانتها الحربية". لكن رغم ذلك هي "البلاد التي خسرت جميع الحروب التي خاضتها". وليس أقلّ تلك الحروب شهرة حرب فيتنام، التي لا تزال الهزيمة فيها تلاحق مخيّلة الكثير من الأمريكيين حتى الوقت الراهن، رغم مرور عدة عقود على نهايتها.

على الصعيد الاجتماعي، يشرح المؤلف، بالاعتماد على العديد من الإحصائيات، أنّ "نسبة نزلاء السجون فيها تتجاوز نسبياً ــ بالقياس على مجموع عدد السكّان ــ نسبتهم في السجون الصينية أو سجون كوريا الشمالية". وبنفس المقياس تشهد الولايات المتحدة نسبة كبيرة جداً على صعيد الجريمة على مختلف مستوياتها. ويشير المؤلف إلى معدّل يقارب سقوط ثلاثين شخصا قتلى على الأرض الأمريكية يومياً.

ومن الآفات الأكثر خطورة في أمريكا هناك "تعاظم ظاهرة الفقر بالنسبة لأعداد متزايدة من الفقراء"، كما نقرأ ـ تقول الأرقام المقدّمة ـ أنّ كلّ طفل من أربعة أطفال أمريكيين يتناولون وجبات الطعام لدى جمعيات المساعدة الاجتماعية، في حين أنّ الكلفة الباهظة للدراسة ــ معدل وسطي مقداره 40 ألف دولار أمريكي سنوياً ــ تقف عقبة أمام استكمال أعداد كبيرة من الأمريكيين الفقراء لدراستهم.

ويؤكّد المؤلف أيضاً أن السياسات الضرائبية التي تنتهجها السلطات المختصة على المستويين الفيدرالي العام، كما على صعيد مختلف الولايات الأمريكية، تقوم على مجموعة من المعايير "المجحفة" بحق الفقراء.

وما يؤكّده مؤلف هذا الكتاب في محصلة تحليلاته وتوصيفاته لأوضاع الأمريكيين بمختلف مشاربهم ومستوياتهم هو أن الولايات المتحدة الأمريكية، كما هي عليه اليوم، قد أنهت في واقع الأمر ما تم تسميته بـ«الحلم الأمريكي" الذي جذب موجات متتالية من المهاجرين من كل حدب وصوب على مدى أغلبية القرون الممتدة منذ التأسيس حتى الماضي القريب. لكن الصورة تغيّرت منذ بدايات هذا القرن الحادي والعشرين.

ومن الواضح أن مؤلف هذا العمل لا يتردد في التأكيد أن "الحلم الأمريكي قد مات" بالمعنى الذي كان يدلّ عليه في الماضي، ويؤكّد بالمقابل أنّ "أمريكا الحزينة"، كما جاء في عنوان الكتاب، هي السائدة اليوم، وهذا ما يحاول التدليل عليه عبر سلسلة طويلة من الوثائق والإحصائيات.

المعالم الأساسية لـ«أمريكا الحزينة" كما تتردّد في توصيفات المؤلف أنّها "البلاد التي تُرتكب فيها أكثر الجرائم بالأسلحة النارية" و«بلاد أكبر عدد من السجناء" و«بلاد أكبر عدد من الفقراء" و«بلاد الأقليات التي تتعرّض للازدراء" و«بلاد الطقوس العقائدية الضاغطة"، وصولا إلى القول إن "الفاتورة الاجتماعية لم تكن في أي وقت بهذا الوضوح وهي تزداد خطورة يوماً بعد يوم". «أمريكا الحزينة"، موضوع هذا الكتاب صورة "غير مألوفة" من قبل القرّاء، حيث أنها تختلف كثيرا عن "الصورة النمطية" لبلاد "الحلم الأمريكي" وما يحمله من وعود بالنجاح والثراء والترقي الاجتماعي كما يتم تقديمها في الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية والشخصيات ذات الشهرة العالمية التي يمثّلها بالدرجة الأولى الرؤساء الأمريكيون.

للإشارة، ميشيل فلوكي صحافي فرنسي معروف، عمل في وسائل إعلامية عدة قبل أن يصبح مراسلاً للقناة التلفزيونية الفرنسية الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية خلال سنوات 2011- 2016.

وكتاب "أمريكا الحزينة" صدر عن دار النشر "ليزارين باريس" (2016)، وجاء في 225 صفحة من الحجم المتوسط.