تَواصل معرض الفنان فيصل بركات

"أماكن".. حين يصبح التراث لوحةً تتنفس

"أماكن".. حين يصبح التراث لوحةً تتنفس
  • 188
ل.د/الوكالات ل.د/الوكالات

يحتضن رواق "الزوار آرت" هذه الأيام، معرضا جديدا للفنان التشكيلي فيصل بركات، تحت عنوان "أماكن"، إلى غاية الرابع من سبتمبر المقبل. المعرض يضم 28 لوحة زيتيّة ومائية، تقدّم للقارئ البصري فسحة من الحنين والوفاء للمكان. وتعيد رسم ملامح أحياء بسكرة العتيقة. كما تطلّ على بعض زوايا قصبة الجزائر، في لغة تشكيلية صاخبة بالضوء والأمل.

لوحات بركات في هذا المعرض ليست مجرد تصوير جامد لمبانٍ أو مناظر، بل هي دعوة إلى التذكّر. كل ضربة ريشة تحمل أثرا من الطفولة، أو رحلة قديمة، أو مشهدا عابرا، ترك في الذاكرة بصمة لا تزول.

من مشونش إلى القنطرة ومن حديقة لاندو إلى غابة بوخالفة وقرية شتمة، تتوزع اللوحات على فضاءات تعيد صياغة الجغرافيا بعيون الفنان. 

هنا، لا نجد المكان كما هو في الواقع، بل كما يراه القلب: أكثر صفاءً، أكثر إشراقا، وأكثر حميمية. الألوان تتنفس كأنها كائن حي، والأزقة تصحو من سباتها لتتحدث بلسان الريشة.

استمرار لمسار فني عصامي

من يتأمل مسيرة فيصل بركات يكتشف فنانا عصاميا لم يأتِ من مدارس الفنون الجميلة، بل من تجربة ذاتية بدأت بـالرسم بالرمل، وصناعة اللوحات التقليدية. وسرعان ما طوّر أدواته مستلهما من المدارس الواقعية والانطباعية، ومن تجارب رسامين جزائريين وعالميين، أدركوا قيمة الضوء في الصحراء، وسحر الألوان في الطبيعة.

هذا البعد العصامي يفسّر صدق أعماله: فهو يرسم؛ لأنه لا يعرف كيف يعيش من دون الرسم، ولأنه يرى في اللوحة وسيلة لإنقاذ ذاكرة قد تضيع في صمت الإسمنت والزمن.

معارض سابقة… فصول من نفس الكتاب

"أماكن" ليس سوى فصل جديد من مشروع فني طويل بدأه بركات منذ سنوات. وقد سبق لـ "المساء" أن غطت العديد من معارضه، التي رأتها نصوصا تشكيلية تعكس كفاح الفنان من أجل إنقاذ تراث بسكرة الأشم.

ففي معرضه "لون وأصالة" الذي احتضه رواق راسم، ظهرت اللوحات المائية كصرخة هادئة للحفاظ على التراث. جسّد الفنان فيها معالم مثل القنطرة، وحديقة لاندو، بألوان متناسقة تستحضر الأصالة، وتدعو إلى إنقاذ ما يندثر.

أما معرضه "حنين الأماكن" برواق عائشة حداد، فكان رحلة في عمق الذاكرة، ضم نحو 40 لوحة بين الزيتية والمائية. وهنا لم يكتف بركات بإعادة رسم الأمكنة، بل ذاب معها في علاقة وجدانية، حيث القصبة والبساتين والأزقة القديمة تتحول إلى رموز وجدانية، تُرى بالعين، وتُحسّ بالقلب.

وفي معرضه الأسبق "أضواء بسكرة" برواق "الزوار آرت"، استحضر نحو 30 لوحة واقعية؛ قصور بسكرة، وواحاتها، ووديانها. 

كان الضوء في هذه الأعمال هو البطل الحقيقي، إذ أظهر أن للمدينة وجها آخر مهددا بالاندثار، لكنه حيّ في الألوان.

هكذا، من معرض إلى آخر يثبت بركات وفاءه للمكان، وإصراره على أن الفن ليس مجرد تعبير فردي، بل هو ذاكرة جماعية، لا بد من حفظها.

"أماكن"… أكثر من معرض

حين يقف الزائر أمام إحدى لوحات "أماكن" يشعر أنه ليس أمام مشهد بصري فحسب، بل أمام حكاية تُروى بلا كلمات. 

الأزقة تستيقظ، والجدران تبوح بما مرّ عليها من حكايات. وأشجار النخيل تمتد جذورها في اللوحة كما في الذاكرة. 

إنها رحلة لا يخرج منها المتلقي كما دخل، بل يغادر وقد أخذ معه جزءا من الضوء، ومن الحنين، ومن الشغف بالمكان.

وبمعرض "أماكن" يواصل فيصل بركات كتابة فصول تجربته الفنية التي تقوم على العشق، والوفاء للأمكنة. 

تجربة بدأت من بسكرة، وامتدت إلى الجزائر العاصمة، لتؤكد أن الفن يمكن أن يكون جسرا بين الماضي والحاضر، وبين الذاكرة والواقع.

إنه فنان لا يرسم المدن فحسب، بل يرسم أرواحها. وفي زمن يتسارع فيه الإيقاع تأتي لوحاته كوقفات للتأمل، لتقول ببساطة: "الأمكنة تعيش فينا بقدر ما نعيش فيها".