الكاتب الصحفي إدريس بوسكين لـ’’المساء”:

أغلب ما يعرفه الروس عن الجزائر، بهتان وزور

أغلب ما يعرفه الروس عن الجزائر، بهتان وزور
الكاتب الصحفي إدريس بوسكين
  • القراءات: 1105
❊  حاورته لطيفة داريب ❊ حاورته لطيفة داريب

كم كانت سعادة إدريس بوسكين كبيرة وهو يتلقى منحة لمواصلة دراسته العليا في الخارج، وهكذا وجد نفسه في روسيا، حيث عاش الكثير من المغامرات، سردها في كتابه الصادر حديثا عن المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، بعنوان ثلاث سنوات في روسيا، على خطى السلاف والتتار وشعوب القوقاز، زوده بمعلومات كثيرة عن تاريخ شعوب المنطقة.. المساء اتصلت بالصحفي والكاتب إدريس بوسكين، وطرحت عليه أسئلة عديدة عن هذا الإصدار، فكان هذا الحوار.

صدر لك كتاب في أدب الرحلة بعنوان ثلاث سنوات في روسيا: على خطى السلاف والتتار وشعوب القوقاز، هل كنت تسجل يومياتك حينما كنت في روسيا؟ وما هي مصادرك المتعلقة بالجانب التاريخي لكتابك؟

❊❊ نعم، كنت أسجل يومياتي لما كنت في روسيا، لكنني كنت أعتمد أكثر على ذاكرتي، خصوصا في الأمور التي كانت تثير فضولي أو انتباهي أو دهشتي، كنت وأنا في الجزائر معجبا جدا بروسيا، بتاريخها وثقافاتها ودياناتها وعاداتها وتقاليدها وفلكلورها وتنوعها البشري، وكذا فنها وجغرافيتها ومعالمها ومدنها ومشاهيرها، لهذا لما حللت بها، صرت أعشق زيارة حواضرها بهدف التعرف عليها. لقد كنت أشتري أيضا كتب التاريخ والثقافة حولها والبطاقات البريدية التذكارية، كما كنت آخذ لها الصور بآلة التصوير الخاصة بي، وأطالع حولها دوريا في مواقع الأنترنت الأكاديمية والبحثية والإعلامية، وقد كنت أيضا أزور مسارحها ومكتباتها ومتاحفها، وأتكلم مع مسؤوليها ومثقفيها وسكانها حول كل ما يخصهم ويخصها، وكذلك مهاجريها القادمين من آسيا الوسطى والقوقاز وأوروبا الشرقية ومن مختلف بلدان العالم، هي كلها مصادر اعتمدت عليها في كتابي، كل على حسب حاجتي لها.

غلب السرد التاريخي في بعض فصول إصدارك، إلى ماذا يعود ذلك؟

❊❊ في بعض فصول الكتاب، طغت حقيقة السرد التاريخي، وقد كان الهدف منه وضع القارئ الجزائري والعربي في صورة وسياق السرد الحكائي الوصفي -باعتباره الأساس في أدب الرحلة- من خلال التعريف بتاريخ مدن وشعوب لا يعرف عنها هذا القارئ شيئا تقريبا، فليس من المعقول مثلا، أن أصف لهم الشعب التتري في جمهوريته ذاتية الحكم تتارستان، وهم في أغلبهم لا يعرفون عنه سوى أنه شعب قديم ذي بأس وقوة، هاجم فيما مضى العالم الإسلامي، وقضى على الدولة العباسية، بل مازال ينظر بعض الناس إليه بسلبية كبيرة، رغم أنهم اليوم مسلمون، في حين أن آخرين يعتقدون أنهم انقرضوا، وهناك أيضا شعوب أخرى لا يعرف عنها هذا القارئ شيئا بالمرة، كالبلكار والكاراتشاي والكوميك، فأغلب الجزائريين والعرب يعتقدون عن جهل، أن كل شخص آت من روسيا هو روسي بالضرورة، لهذا فقد تعمقت كثيرا في تناول الجوانب التاريخية، مع التحلي بأقصى درجات المصداقية والموضوعية، ومعروف أن أغلب مؤلفات أدب الرحلة المعاصرة في العالم العربي لا تتناول الأسفار، إلا من خلال جوانب معينة، كالأدب ـ مثلا ـ أو السياحة، مما يجعلها مجرد يوميات وخواطر ونادرا جدا ما يعود أصحابها للتاريخ بكل تفاصيله أو أحداثه الكبرى، كما فعلت في كتابي، لأنه صعب جدا ويتطلب البحث والتدقيق والتحليل والكثير من الجهد والوقت والتمحيص، بالإضافة إلى التمكن من لغة القوم الأصلية والعيش بينهم لمدة ليست بالقصيرة، لهذا فهم يلجأون عادة إلى الوصف الشكلي للمعالم والشواهد لا غير، وبعيدا عن تطعيم مؤلفاتهم بالسرد التاريخي، فإنه ليس بإمكانهم حتى إيصال مشاهداتهم وعواطفهم وأحاسيسهم ورؤاهم الشخصية حول المكان، بل ونقل الانطباع بأنهم من ثقافة معينة ويصفون ثقافة أخرى مختلفة ومغايرة لهم، أي أنهم يبقون في معزل عن روح ثنائية الأنا (الكاتب وقيمه ورؤاه وانطباعاته وعواطفه)، و«الآخر (المختلف) وهي من أساسيات أدب الرحلة. 

لقد درست في روسيا لثلاث سنوات، العام الأول كان تحضيريا وخاصا بتعلم اللغة الروسية، أما العامان المواليان، فقد كانا للماستر في تخصصي علوم الإعلام والاتصال، في ذاك العام التحضيري، درسنا اللغة والأدب والتاريخ والثقافة الروسية بشكل عام، لكن بطريقة عملية ممتعة ورائعة، غير أن ذلك التاريخ لم يكن متعمقا ولا دقيقا، إذا لم يكن يغطي إلا المحطات الكبرى للروس، كبدايات التواجد السلافي الشرقي في روسيا الحالية وتوسع الدولة الروسية بعد هزيمتهم للتتار، وكذا الحربان العالميتان الأولى والثانية وهكذا. كما أنه لم يكن يخص إلا الروس كعرقية، رغم أن روسيا بها عشرات القوميات وكثير منها تعد بالملايين وتسكن جمهوريات وأقاليم ذاتية الحكم خاصة بها، كنت أتعجب في نفسي وأقول؛ أين هم التتار وغيرهم من الشعوب التوركية (الناطقة بالتركية) من كل هذا التاريخ؟ وأين هم شعوب القوقاز وسيبيريا وشبه جزيرة القرم، رغم أنهم شعوب أصيلة ويعدون بالعشرات ويسكنون المنطقة من مئات وآلاف السنين؟ لهذا قررت بعد عامي التحضيري أن أتعمق أيضا في دراسة التاريخ الروسي، من خلال اقتناء كتب التاريخ من المكتبات مباشرة والمطالعة عبر الأنترنت التي كانت متنفسا كبيرا بدورها لتلك الشعوب المهمشة، للاعتزاز بتاريخها الخاص، لم أكن متحيزا لأحد، إنما كنت أدرس وجهة نظر الطرفين وأقارن بينهما، وأحاول جهدي إنصاف تاريخ تلك الشعوب دون إهمال التواجد الروسي الذي كان له وإلى اليوم، أهم الأثر في روسيا المعاصرة.

هل وجدت سهولة في متابعة الدروس، وهل كان صعبا تعلم اللغة الروسية؟

❊❊ بعد دراسة اللغة الروسية في العام التحضيري، تصبح الدراسة سهلة نوعا ما في الكثير من المواد، غير أن مواد أخرى تبقى صعبة، كعلم النفس وعلم الاجتماع، كونها تتطلب التعمق في البحث والتفكير والمنهجية والمصطلحات، لكن كان يجب في كل الأحوال التركيز على المراجعة اليومية للدروس وقراءة الكتب والتحدث مع الروس بشكل يومي، والخروج إلى الشارع لتعلم اللغة بشكل أحسن، فالروسية لغة صعبة جدا مقارنة بالإنجليزية والإسبانية، خصوصا في قواعدها النحوية والصرفية والإملائية ومخارج الحروف.

ماذا قدمت لك تجربة الدراسة في روسيا، هل شكلت إدريس بوسكين آخر؟

❊❊ العيش في روسيا لثلاث سنوات وزيارة مدنها ومعاشرة شعبها، كان أهم بالنسبة لي من الدراسة في حد ذاتها، التي منحتني المعارف الأكاديمية واللغة الروسية، غير  أن العيش في تلك الدولة منحني فرصة التعرف عليها من الداخل بتاريخها وثقافاتها وفنها وفلكلورها وعرقياتها ودياناتها وأزماتها وطابوهاتها، ولا يمكن أن يستكشف هذه الأمور ويغوص فيها إلا كل فضولي محب للاستكشاف. الدراسة في بلد أجنبي تغير الإنسان من الداخل تماما وتجعله مواطنا عالميا، متفتحا ومتسامحا وإنسانيا لا يرى في الاختلاف إلا تنوعا ورحمة، الحدود بالنسبة لي ما هي إلى حواجز اصطناعية، أنتجتها التحولات والتطورات الإنسانية لتوضع كسد منيع في وجه تنقل العامة من البشر، والهجرة والسفر في نهاية الأمر غريزة بشرية أساسية.

هل تعتقد بوجود تلاحم بين الأقليات الكثيرة الموجودة في روسيا؟ هل هناك شعور بالوحدة القومية والهوية الروسية؟

❊❊ هناك تلاحم كبير بين الأقليات في روسيا، رغم أعدادها الكبيرة، والاختلافات الجوهرية بينها فرضه وجود حكومة مركزية قوية في موسكو، لها توجه سياسي واقتصادي ومجتمعي وثقافي (لغوي) موحد وشامل، منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، مع الإقرار لزاما من طرف الجميع بريادة وقيادة الروس لهذا المجتمع المتنوع بحكم سطوتهم التاريخية والحضارية، وكذا كثرة أعدادهم مقارنة بالآخرين، والأهم من كل هذا، عدم وجود تدخل أجنبي (غربي) في الشؤون الداخلية لروسيا، وهو سبب أزمات كل بلدان العالم المتخلفة، صحيح أن هناك الكثير من الأقليات العرقية والدينية في روسيا، وأن العداوات بين بعضها كبير جدا ولا يمكن إصلاحه إلا بمعجزات، كحال العداء بين الأذريين والأرمن وبين الأنغوش والأوسيتيين، إلا أن وجود سلطة مركزية قوية في موسكو، واقفة في وجه النعرات الداخلية والتدخلات الخارجية، جعل هذا التلاحم متماسكا، وقد كان أيضا لنهاية الصراع في الشيشان إثبات لقوة روسيا بوتين في صد التصدع الداخلي، بل ونقل الأزمات إلى مناطق نفوذ الغرب، كجورجيا أوكرانيا والشرق الأوسط، لقد شكلت هزيمة الشيشان في الاستقلال في نهاية تسعينيات القرن الماضي، ضربة قاضية لبقية العرقيات في روسيا التي كان لها رغبة واضحة في الانفصال، وإقامة دول خاصة بها، أسوة ببلدان أخرى استقلت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كأذربيجان وجورجيا والكثير من بلدان آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية.

هل تتواصل مع الطلبة والأصدقاء الذين تعرفت عليهم في روسيا؟ هل ذكرت الأسماء الحقيقية لهم؟ وهل أخذت الإذن بذلك؟

❊❊ نعم، لازلت أتواصل مع عدد من أصدقائي الذين درست معهم وذكرتهم في كتابي، وكلهم مشار إليهم بأسمائهم الحقيقية، على غرار ديبرا الأندونيسية وإيفان من هونغ كونغ وتسو إي من الصين، وقد سروا كثيرا بذكري لهم في الكتاب لما أخبرتهم بالأمر، في الحقيقة، كان بإمكاني ذكرهم بأسماء مستعارة، لكن هذا الأمر كان سيجعل العمل بعيدا عن الواقعية، على الأقل في نظري، وهو أمر بعيد جدا عن جوهر أدب الرحلة الذي يتناول أساسا الواقع الحقيقي بالوصف والإخبار والتحليل، في قالب من الطرافة والغرابة والإثارة والعواطف، لكن بعيد أيضا عن العجائبية المفرطة التي ميزت كتابات الأوليين، إن هذا العمل هو أيضا تكريم لهؤلاء الأصحاب، فهم من أعز من صادقت في حياتي، وستبقى ذكرياتي معهم رائعة وخالدة ما حييت.

هل تفكر في ترجمة عملك إلى اللغة الروسية؟

❊❊نعم، أرغب جدا في ترجمة هذا العمل إلى الروسية أو التترية.

ماذا يعرف الروس عن الجزائر؟

❊❊ الجزائر اليوم مجهولة تقريبا في الوعي الروسي، وأقصد هنا لدى الإنسان الروسي البسيط، لقد كان لها حضور كبير سابقا في هذا المجتمع في الستينات والسبعينات والثمانينات، لما كان للاتحاد السوفيتي علاقات إيديولوجية وسياسية واقتصادية كبيرة بالجزائر، التي كانت بدورها قوية آنذاك ولديها وزن في الساحة الدولية، لكنه لم يعد، بل وحتى الطبقة الجامعية المتعلمة في روسيا ليست لها دراية كبيرة تذكر بخصوص الجزائر، أما من لهم اهتمام بها، وهم قلة قليلة، فيدرجونها مباشرة في فضاء إفريقيا الفرنسية، فلا يذكرونها إلا وأنها كانت مستعمرة فرنسية وشعبها يتكلم الفرنسية ويهاجر كثيرا إلى فرنسا وهكذا، كأن كل حياته متعلقة بفرنسا، الجزائر للأسف، ليس لها ثقافة مركزية، لهذا نجدها اليوم ترزخ تحت هذه الهيمنة الثقافية الفرنسية ولا تخرج عنها، وهكذا ينظر إليها في العديد من بلدان العالم، وليس في روسيا فقط، حسبما لاحظته من معاشرتي لأصدقائي القادمين من مختلف البلدان، وإذا أخذنا الأدب الجزائري كمثال، فإنني أستطيع القول أنه ليس حاضرا بتاتا في الجامعات والمعاهد الروسية، فالمكتوب منه بالعربية غير بارز إطلاقا،  لأن الأدب العربي الذي يدرس في مؤسسات روسيا التعليمية لا يعكس غالبا إلا تراث المشرق العربي، أما المكتوب منه بالفرنسية فلا يدرس إلا بشكل جانبي، وفي إطار أقسام اللغة والثقافة الفرنسية ضمن ما يسميه الروس في مناهجهم التعليمية الأدب الناطق بالفرنسية لمستعمرات فرنسا السابقة، أما تاريخ الجزائر وثقافتها، فلا يعرفون عنهما شيئا تقريبا، فالتاريخ الذي تعكسه بعض المؤلفات مأخوذ مباشرة من المناهج الفرنسية، وليس من الجزائر بكل ما فيه من تزوير وتلفيق وأكاذيب، فمثلا بالنسبة لأغلب هذه المؤلفات التي اطلعت عليها في مكتبات بيع الكتب (على قلتها)، فإن أبوليوس والقديس أوغسطين مثلا، ليسا جزائريين البتة، بل رومانيين وفقط -لغة وفكرا و«حضارة”- أما الثورة التحريرية، فهي حرب مات فيها الجزائريون تماما كما الفرنسيون، وليست انتفاضة على احتلال تمت خلاله إبادة وحشية لملايين من الناس الأبرياء العزل.