ليس مجرد سرد لمعاناة شخصية

أدب السجون.. وثيقة تاريخية وأخلاقية بأبعاد كونية

أدب السجون.. وثيقة تاريخية وأخلاقية بأبعاد كونية
  • 47
سميرة عوام سميرة عوام

نظّمت دار الثقافة لولاية عنابة، بالتنسيق مع نادي أوراق عناب الثقافي، أوّل أمس، ندوة فكرية موسّعة، تناولت موضوعًا إنسانيًا وأدبيًا بالغ الحساسية والعمق، هو أدب السجون، باعتباره فضاءً تعبيريًا يتجاوز حدود الجدران الحديدية، ليحمل في طياته وجع الإنسان، وصرخة الوعي، ومقاومة القهر من خلال الكلمة.

جاءت هذه الندوة لتفتح نافذة فكرية جادة حول هذا النمط الأدبي، الذي ظلّ لعقود طويلة يُكتب بالحبر والدموع والقيود، ويُقرأ بقلوب ترنو إلى الحرية والكرامة. وقد تضمّن برنامج اللقاء جلستين علميتين بمشاركة نخبة من الأساتذة والباحثين من مختلف الجامعات الجزائرية.ترأس الجلسة العلمية الأولى الأستاذ مقران فصيح، وشهدت ثلاث مداخلات نوعية؛ استهل الدكتور إدريس بوديبة النقاش بمداخلة تحت عنوان "الحسّ الإنساني والجمالي في رسائل السجناء"، مبرزًا كيف يتحوّل الحرف داخل السجن إلى أداة للبوح والتطهّر، وكيف تُولد الجماليات من رحم المعاناة. تلتها مداخلة الدكتور نوار عبيدي بعنوان "تطوّر إبداع السجون في الأدب العربي"، حيث عرّج على تجارب أدبية بارزة، من العصر العباسي إلى العصر الحديث، وكيف ساهمت السجون في تشكيل معالم خطاب أدبي نقدي ومقاوم. أما الأستاذة صليحة نواصر فقدّمت رؤية مختلفة في مداخلتها "أدب السجن بين بوح الجسد والروح والمقاومة"، حيث تطرّقت إلى البعد النفسي والجسدي للكتابة في السجن، ودورها في استعادة الذات وتحدي القمع.

أما الجلسة العلمية الثانية، فقد أدارها الدكتور السبتي سلطاني، وضمّت أربع مداخلات معمّقة. قدّم الأستاذ الدكتور فصيح مقران مداخلة بعنوان "فلسفة السجن في الأدب والثقافة"، تناول فيها البعد الفلسفي والمعرفي للسجن كفضاء رمزي داخل النصوص الأدبية، مبيّنا كيف يتحوّل المكان المغلق إلى رمز للحرية الداخلية. ثم تحدّث الدكتور إبراهيم بادي عن "مضمون السجن في الأدب الجزائري"، مسلّطًا الضوء على تجارب وطنية عبّرت عن الهمّ السياسي والاجتماعي من خلف القضبان، لعلّ أبرزها أدب الثورة والمعتقلات في العشرية السوداء. أما الأستاذة مريم بوشارب فقد أثارت نقاشًا فكريًا في مداخلتها "السجن بوصفه استعارة كبرى للوجود"، حيث ربطت بين الفلسفة الوجودية والكتابة السجنية، مشيرة إلى أنّ السجن قد يكون حالة ذهنية قبل أن يكون جدرانًا. واختتم الأستاذ كريم كعرار الجلسة بمداخلة ثرية بعنوان "الإبداع في السجن: تجربة سارفنتس والأمير عبد القادر"، ليربط بين تجربتين مختلفتين زمانيًا ومكانيًا، مشيرًا إلى أن القيد لا يلغي الفكر، بل قد يفجّره.

انتهت الندوة بكلمة ختامية تضمّنت توصيات أكاديمية وثقافية، أهمّها ضرورة توثيق أدب السجون في الجزائر ضمن مشاريع بحثية وطنية، وإدراج هذا الأدب في المناهج الدراسية كجزء من الذاكرة التاريخية الثقافية، وتشجيع دور النشر على طباعة ونشر مذكرات وتجارب المسجونين ذوي الخلفية الثقافية. كما تم توزيع شهادات شرفية على المشاركين تكريمًا لمساهماتهم المعرفية، وتعبيرًا عن تقدير دار الثقافة لجهودهم في إغناء الساحة الفكرية الجزائرية.

أثبتت هذه الندوة أنّ أدب السجون ليس مجرد سرد لمعاناة شخصية، بل هو وثيقة تاريخية وأدبية وأخلاقية تحمل أبعادًا كونية. هو أدب المقاومة، وأدب الإنسان حين يُحاصر جسديًا لكنه يظل حرًا بفكره وقلمه. بهكذا مبادرات، تبرهن المؤسسات الثقافية الجزائرية على وعيها بأهمية التفكير في الهامش، وتسليط الضوء على المسكوت عنه، وتحويل الألم إلى أداة للخلق والإبداع.