نساء الطوارق يُعدن الحياة لــ "إمزاد"

آلة الفتيات الجميلات.. فقط

آلة الفتيات الجميلات.. فقط
  • القراءات: 3814
اعمر واعلي اعمر واعلي

كانت آلة إمزاد التي تشبه الكمان أو الرباب وحيد الوتر ولا تعزفها إلا النساء الطوارق، مهددة حتى فترة قصيرة، بالزوال لقلة العازفات لولا عودة الاهتمام بها، لتستمر في نثر ألحانها في أرجاء الصحراء ومناظرها الخلابة. فمن جبال الهقار والطاسيلي في الجزائر إلى مرتفعات النيجر ومالي المجاورتين، رافق الإمزاد طيلة قرون قبائل الطوارق؛ حيث تشكل المرأة ركيزة المجتمع.

وفي مطلع الألفية، كانت امرأتان فقط لاتزالان تعزفان على هذه الآلة الفريدة المكوَّنة من نصف ثمرة قرع دائرية مغلفة بجلد حيوان، ومزيّنة برسوم وذراع خشبية ووتر وحيد من وبر الحصان. فقد توجهت شابات الطوارق نحو الآلات العصرية، وانصرفن عن الإمزاد، الذي يتطلب "نوعا من إدراك للوقت"، على ما تقول عالمة الأعراق الألمانية إيدا براندس. ولكن بفضل جمعية "أنقذوا الإمزاد" التي أنشات ثلاث مدارس في الهقار، أصبحت العازفات بالعشرات يداعبن وتر هذه الآلة. ولا يُسمح للرجال بالعزف على هذه الآلة كي لا تقع عليهم "اللعنة"، بحسب معتقدات قديمة.

الإمزاد آلة "الفتيات الجميلات"

في إحدى هذه المدارس تعلّم عميدة العازفات خولان الأمين الفتيات العزف في مدينة تمنراست الصحراوية. وتُعبّر هذه المرأة التي تعدت الثمانين من العمر لوكالة فرانس برس، عن سعادتها لتعليم "هذا الفن الذي أمارسه منذ سن العاشرة". وتقول ضاحكة: "الإمزاد لا تعزفه إلا الفتيات الجميلات". وفي ليلة هادئة لا تخرق سكونها إلا أنغام الإمزاد، جلست خولان تعزف واضعة الآلة على ركبتيها، ومستخدمة قوسا رُبط إلى خيط من شعر ذيل الحصان وهي تنظر إلى سماء زيّنها للتوّ هلال القمر في هضبة تاغمارت على بعد 30 كيلومترا من تمنراست.وفيما الشمس تميل إلى الغروب، جلس إلى جانبها الشاعر حسيني نخات يلقي قصيدة وهو متلحف بلباس الطوارق التقليدي الأزرق الذي يذكّر بلون البحر في هذه المنطقة التي تبعد بألفي كيلومتر عن الساحل. ويبث الإمزاد لحنا رقيقا وخافتا يتماشى مع الهدوء الذي يعم الصحراء. ويقول الطوارق إن هذا اللحن يقدَّم مكافأة للمقاتل الباسل. ويؤكد الشاعر: "تزوّدني رنة الإمزاد بطاقة غريبة".

وكانت موسيقى الإمزاد ترافق اللقاءات العاطفية المعروفة بـ "أهال"، التي عادة ما تجمع الشباب الطوارق حتى غروب الشمس، وتتواصل أحيانا في جزء من الليل. وعرفت المهندسة فريدة سلال المولودة في العاصمة الجزائرية، هذه الأجواء عندما كانت موظفة في ولاية تمنراست في سبعينات القرن الماضي. وتتذكر قائلة إنها اضطرت لمغادرة منطقة الهقار في إطار عملها ولم تعد إليها إلا بعد ثلاثين سنة، لتكتشف أنه "لم يتبق سوى عازفتين على الإمزاد، بينما اختفت لقاءات "أهال". وقد اشتكت يومها إلى "أمين عقال الطوارق" (كبير الأعيان) من اختفاء عازفات الإمزاد. وبما أن مجال اختصاصها هو الاتصالات، قال لها مازحا: "هذا بسببكم؛ فأنتم من أدخل خدمة الهاتف عندنا"، فانصرف الشباب نحو الحياة العصرية البعيدة عن اللقاءات الموسيقية.

أنقذوا إمزاد..

وانتهى بهما الأمر إلى إنشاء جمعية "أنقذوا إمزاد" في عام 2003. وبعد عشر سنوات أثمرت جهودهما إدراج "الممارسات والمهارات والمعرفة المرتبطة بمجموعات إمزاد عند الطوارق"؛ في قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) للتراث العالمي الثقافي اللامادي للإنسانية. وخلال اجتماع اليونيسكو لمناقشة طلب ضم إمزاد للتراث العالمي، قدّم المشروع أحد أعضاء الجمعية صديق ختالي وهو من الطوارق الذي يقول بفخر لوكالة فرانس برس: "كنت أول من يتحدث بلغة الطوارق (البربرية) في هذه المنظمة".

بيت لإمزاد في.. المدينة الحمراء

وبفضل عمل الجمعية أنشئ بيت الإمزاد في تمنراست المعروفة بـ "المدينة الحمراء"، الذي يضم استوديو تسجيل وقاعة للرقص ومسرحا للعروض إضافة إلى مشغل لصناعة هذه الآلة الموسيقية. في المشغل، جلست زينب شينون باسطة ساقيها على سجادة وهي تمد خيطا من شعر الحصان، مسكت طرفه الآخر بأصابع رجليها من أجل صناعة الوتر أو ما يسمى "أزيو"، وهي تقول للمتدربات حولها: "صناعة الإمزاد تتطلب دقة الملاحظة والصبر"، فتتطلب صناعة آلة الإمزاد سبعة أيام من العمل؛ إذ يُشد جلد غزال أو ماعز على نصف ثمرة القرع ويُثقب على طرفيه، ثم يزيَّن الجلد برسوم مميزة وألوان طبيعية من تمنراست. وفي وقت باتت موسيقى الصحراء تجذب الكثير من المستمعين من الخارج، يتوقع المنتج مهدي بناصر مستقبلا واعدا للإمزاد؛ لأن "شغف البحث عن الأصول لا يمكن أن ينطفئ"، ومعه "يبقى صوت إمزاد إلى الأبد".