العدد3من ”انـزياحـات”

محمد ديب.. قراءات متعددة لمسار مختلف

محمد ديب.. قراءات متعددة لمسار مختلف
  • القراءات: 1143
  نـوال جاوت نـوال جاوت

واصلت مجلة انزياحات الثقافية احتفاءها بالأديب الجزائري محمد ديب، بمناسبة مئوية ميلاده (1920- 2020)، من خلال تقديم نصوص وقراءات حول أعماله ضمن ملحق تحت عنوان محمد ديب قراءات متعددة لمسار مختلف، كأديب إنساني مبدع عابر للأيديولوجيا، ونشرت نصا للأديب الراحل بعنوان عن السلوك المريب للنقاد الفرنسيين والأوروبيين إزاء الأدب المغاربي اعتبر من خلاله أنّهم لا يحتكمون إلى براءة عمل الأديب المغاربي وإنّما إلى انتمائه الإثني، حيث يرى ديب أنّ هذا السلوك يؤدي إلى عزلة هذا الكاتب المغاربي و«انغلاقه على نفسه وتوسيع ذلك إلى المجتمع الذي ينحدر منه والثقافة التي ينتمي إليها، وكل ذلك في إطار الافتراض المسبق بتفوق الحضارة الغربية.

سلط هذا العدد الصادر في 110 صفحات من جهة أخرى الضوء على ظاهرة العنصرية في العالم من خلال عدّة عناوين بينها جينيالوجيا العنصرية والإسلاموفوبيا الذي تناول فيه الباحث أحمد دلباني، آلية التفكير العنصري في مختلف المجتمعات عبر العصور مقدما الإسلاموفوبيا (رهاب الإسلام) المتفشية في العالم الغربي كمثال، كما حمل نصوصا حول التنوّع الثقافي والتمييز العنصري والتمركز على الذات، بالإضافة إلى مشاركة حول ظاهرة هجرة الأفارقة من دول الساحل نحو مدن الجنوب الجزائري. وتضمن الإصدار كذلك موضوعا حول الروائية الأمريكية ذات الأصول الإفريقية توني موريسون التي ناهضت في كتاباتها لأكثر من ستة عقود، عنصرية الأوروبيين في بلادها ضد بني جنسها. ويعدّ محمد ديب اسما يذكر كلّما جاء الحديث عن الرواية الجزائرية، حيث اقترنت هذه الشخصية بنضال الجزائريين، وكان خير مترجم لمعاناتهم، والصوت الذي تكلّم باسمهم وكان شاهدا على الكفاح والصمود، وباتت ثلاثيته الخالدة الدار الكبيرة، الحريق و«النول مرجعا روائيا بامتياز، لكن هذا الصوت الذي خطّ بكبرياء وانفراد الهوية الجزائرية..كان هامسا لا صارخا، واختار أن تكون حياته بعيدا عن الأرض التي عشقها، محمد ديب أبى أن يبقى بعيدا.. ملاحظا لا مشاركا.. مبدعا لا دخيلا، وظلّ لسنوات في أذهان الجزائريين، ذاك الذي عكس سرّ وجودهم وخلّد لالة عيني و«عمر في أذهانهم وكانا رمزين من رموز الميزيرية الجزائرية.

فمحمد ديب قامة بحجم وطن، وطن يبحث عن ردّ ولو جزء يسير من الجميل، والانحناء له عرفانا بما قدّمه حيا وميتا..حيا لأنّه ظلّ مؤمنا بالجزائر مبدعا بها ولها، وميتا، حيث يجهل الكثيرون أنّ الراحل محمد ديب لا زال يعدّ أحد أبرز الشعراء الجزائريين المعاصرين. كتب جميع أشعاره باللغة الفرنسية وبأسلوب تجديدي متميز، جعل الشاعر الفرنسي لوي أراغون يمدح شعرية لغة ديب. كما دفع الأكاديمية الفرنسية إلى منحه جائزة الفرنكوفونية عام 1982، ما أدى كذلك إلى حصوله على جائزة الشاعر مالارميي عام 1998. هيأت له حياته بين صفوف شعبه عبر الكثير من المهن التي مارسها، أن يتعرف على الفئات الشعبية وأساليب معيشتها وتفكيرها ونضالها من أجل القوت والحرية، كما احتك بالمناضلين الجزائريين المطالبين باسترجاع سيادة الجزائر من فرنسا، وأخذ يكتب عن قضايا وطنه، فنشر قصيدته الأولى فيغا عام 1947 وبدا واضحا فيها تأثره بالثقافة الفرنسية، وتمكنه في الوقت نفسه من أدواته التعبيرية كشاعر ذي خصوصية.

مع أنه نشر في سنوات المنفى في فرنسا ستة دواوين شعرية لفتت أنظار الأدباء والنقاد، إلا أن إنتاجه الروائي الذي تجاوز العشرين رواية، كان أكثر انتشارا وتأثيرا، وأطوع للترجمة من شعره الذي بقي محصورا في دائرة هواة الشعر، نظرا لتزايد انغلاقه على نفسه، وصولا إلى حالة من الهرمسية (الإبهام) الصعبة المتجلية في كيميائية لغة تقوم بدورها على التراسل بين المفردات والإيقاعات والأصداء. كما أن النزعة الإروسية الشبقية التي تطبع بعض شعره أججت لغته في المواجهة بين الجسد والكتابة في القصيدة نفسها. وبسبب كثافة شعره ومفرداته اللغوية غدت قصائده صعبة وعصية على الترجمة. ومن أشهر دواوينه الظل الحارس الصادر سنة 1961 و«شجرة الكلام عام 1989. منذ عام 1945، أخذ ديب يعيش متنقلاً بين الجزائر وباريس. وفي عام 1951 تزوج من سيدة فرنسية وعاد إلى حياته النضالية في الجزائر إلى أن نفته السلطات نهائياً في عام 1959 بسبب تصاعد تأثيره في حركة التحرير، فجعل ديب من الكتابة بالفرنسية كتابة وطنية، وباتت فيها صورة الوطن الجزائر كبيرة وواضحة، وهي تخرج من حرب إلى حرب أشد ضراوة، من صلب التجربة الإنسانية التي لا حدود لقوتها. وفي أعمال المرحلة الأخيرة من حياته، برزت حساسية ديب الصوفية وأخذت أسئلته الوجودية تهتم بأدبية وفنية الكتابة، بعيدا عن الهم السياسي، كان الراحل يقول بهذا الصدد يُهيأ إلينا أنّ عقدا يربطنا بشعبنا، ويمكننا أن نسمي أنفسنا كتّابَه العامّين نحو هذا الشعب نلتفت أولا، ثم نلتفت نحو العالم لنشهد على هذه الخصوصية، ولكن أيضاً، لنشير إلى أن هذه الخصوصية تندرج في ما هو كوني.ولقد كان محمد ديب ـ كما يصفه النّقاد ـ انطلاقا من إدراكه ووعيه بذاته، يسعى إلى إدراك ووعي وطني ومنه عالمي.

وقد صمم ديب سعيه هذا مثل مسألة رياضية يعاد دائما اكتشافها، حسب منهج واثق، لكنه في الوقت نفسه غريب وغامض.  بعض المثقفين والسياسيين الفرنسيين تفطنوا إلى أن كتابات محمد ديب لا تخدم مشروعهم التوسعي، معظمها يدخل في إطار التوعية لأبناء بلاده والكشف عن نوايا الفرنسيين التوسعية وتغييب الحقيقة، إضافة إلى توظيف محمد ديب، لجميل التراث العربي والإسلامي في كتاباته.محمد ديب الذي دفن بسان كلو، إحدى ضواحي باريس في فرنسا سنة 2003، نشرت له عام 1957 رواية النول، ثم توالت كتاباته السردية بين عامي 1970 و1977، فنشر ثلاث روايات هي إله وسط الوحشية عام 1970، و«سيد القنص عام 1973، و«هابيل عام 1977. كما ترك محمد ديب أكثر من 30 مؤلفا، منها 18 رواية آخرها إذا رغب الشيطان و«الشجرة ذات القيل عام 1998، وخمسة دواوين شعرية منها؛ آه لتكن الحياة عام 1987، وأربع مجموعات قصصية منها الليلة المتوحشة عام 1997، وثلاث مسرحيات آخرها ألف مرحى لمومس عام 1980، إلى جانب ترجمته للكثير من الأعمال باللغة الفنلندية إلى الفرنسية.