"منبُوذو العصافير" لإسماعيل يبرير

أسئلة التاريخ والهوية والمواطنة

أسئلة التاريخ والهوية والمواطنة
  • القراءات: 1277
❊د.مالك ❊د.مالك

يعود الروائي الجزائري إسماعيل يبرير إلى قرّائه بآخر أعماله "منبوذو العصافير"، الذي يصدر في طبعتين متزامنتين عن دار "العين" المصرية في الطبعة العربية، ودار "الحبر" الجزائرية في الطبعة الجزائرية، وتعتبر الرواية العمل السردي السادس في مساره الروائي، وهي حاضرة في صالون الكتاب الدولي الـ24.

تقترب رواية "منبوذو العصافير" من عالم مختلف عن رهاناته السابقة، ففي ثلاثيته السابقة "باردة كأنثى، وصية المعتوه، مولى الحيرة" كتب عن المكان ودافع عنه، كما ضبط عدسته على الحركات الداخلية لأبطاله، غير أنه في الرواية الأخيرة يختار مكانا افتراضيا غير حقيقي، وإن كان في جزء منه، مكان محتمل في الفضاء الجزائري، ويركز على الشخوص والسرد والحكاية باقتصاد واضح.

تُشرع "منبوذو العصافير" على قرن من الزمن، تشكلت فيه المدينة الافتراضية التي اسمها "العين"، وعلى مسافة قريبة بلدة اسمها "باب العين"، في هذا الفضاء ينشأ ازدحام بشري من شخوص الرواية الذين جاءوا من جهات مختلفة واثنيات عديدة، هناك مارك الألماني الذي هاجر من بلاده وادعى أنه فرنسي، ثم تحول إلى جزائري، وقد أنجب أولادا عمروا بعدهُ، وصار له أحفاد يحملون دمه، ويحضر مارك الثاني حفيده الذي يسعى إلى كتابة رواية مختلفة، ثم لا نعرف إن كان يكتب رواية أم يسرد سير حقيقية.

توجد ليلى التي هي ريبيكا اليهودية، بنت كوهين بن موريس، عجوز تحب الولهي (أحد الأبطال الرئيسيين للرواية) بعد رحيل زوجها "الكافي"، وقد هاجر أهلها سنة 1947 إلى وجهة مجهولة، يعتقد أنهم من اليهود الذين أسسوا إسرائيل، تخفي هويتها عن أبنائها وأحفادها، غير أن زوجها يعرف هويتها وسيتوقف عن حبها إن لم يكن قد كرهها إثر تأسيس إسرائيل.

يوجد أيضا سيمون الفتاة الفرنسية التي تساعد الثوار وتحب وتتزوج بشار بن مارك الأول، ثم يتخلى عنها ويتنكر لها، وتجد نفسها في تيه قبل أن تعثر على سليمان القصاب (عازف ناي) ويلتقطها، ثم يقتله الفرنسيون، فتقرر الانتقام له بالالتحاق بالثوار.

بالإضافة إلى الوافدين غير الأصلاء من السكان، يوجد الولهي رجل متعلم ومثقف أحب وفشل حبه، فهجر من بلدته "باب العين"، ثم عاد مختلفا يرتدي عباءة الزهد والحكمة، لكن أيضا حكاء يخيط القصص للناس ويبالغُ في تقديس الحب، يقيم في كوخ على أطراف البلدة.

كما يوجد الكافي وابنه محسن فاشلان يدعيان القوة، محسن هو ابن ليلى من الكافي، وقد أحب بنت سيمون "الجوهر"، والتي ماتت مقتولة واتُهم هو بقتلها، ويوجد الهاشمي بن محسن، وهو الذي أصابته لعنة الولهي فسلك طريقهُ.

هناك أيضا أمجد بن أنيسة بنت الكافي، خاله محسن وجدته ليلى، لكن والده هو إسماعيل الفلسطيني، وقد مات في الحدود المصرية الليبية، بعد أن خرج قاصدا محاربة اليهود سنة 1973، ولم يبلغ مصر قط، ولم يعلم أحد بموته.

تبدو الرواية كمشاهد مسرحية متلاحقة، ففي كل مرة تميل كفة الحكاية لواحد من الشخوص، لكن للعصافير حضور رمزي، يقيس به الكاتب الحرية والحياة والتجرد من الآخرين، تلك العصافير التي يلاحقها سكان الفضاء الروائي منذ مطلع القرن، لهذا فرت وغادرت إلى مكان مجهول ترقب منه البشر، وبدأت الملاحقة منذ جاء اليهودي موريس بعصفور حسون من أوروبا ليحميه من الطاعون الذي ضرب العين، مستندا إلى ميثولوجيا تقول إن من يملكه ينجو من الطاعون، لكنه باعه لأحد الأثرياء بمقابل كبير، هذا الأخير حرره، فرصد اليهودي موريس مكافأة كبيرة لمن يصطاده، لهذا اجتمع الناس للحصول عليه وطاردو كل عصافير الحسون في المكان الذي أطلق فيه الحسون الأوروبي.

تدافع الرواية عن فكرة المواطنة ضمنيا، فلا توجد أية إشارة إيديولوجية أو سياسية، لكن القراءة العميقة تجعلنا نعتقد بأن يبرير يقول، إن الأرض لا ترفض وافدا إذا ارتبط بها وأحبها وخدمها، إنها رواية تتشكل على معنى وقيمة التعايش وقبول الآخر، لأن البشري لا يعرف عادة بأن بعض الكائنات تنفر منه.

لربما جدد الكاتب رهانه على الأسلوب فكتب بلغته المميزة، وقدم الحكاية بكثير من المراوغات الجميلة التي تجعل القارئ يعيد في كل مرة الفقرة، كأنه في اختبار، لكنه لم يغفل أبدا الأسئلة التي علقت بالتاريخ عن موقع وحقيقة الوجود اليهودي والفرنسي في الحياة العامة للجزائريين، ومفاهيم الهوية الغامضة، وعن الحرية والحب، وفي النهاية تبدو الرواية كأنها ملحمة من أجل الحب الذي يشكل الهوية المشتركة أو ما يشبه التيار الذي يجرف كل النفوس أو ينقذها.

لعل أهم ما يميز الرواية؛ التركيز، فقد تجنب الروائي الغوص في هوامش الشخصيات والأحداث، وحافظ على الموضوع ولبه، فهامش البعض هو لب البعض والعكس، وهذه التقنية في حد ذاتها ميزت العمل عما سبقه، إذ لا يمكن أن تفهم الرواية بحذف فقرات بسيطة منها، وهو تكامل جميل يكشف النضج الكتابي لدى يبرير، خاصة إذا ما عرفنا أن الرواية كلها تدور حول أسئلة الكتابة، تلك الأسئلة التي تؤرق محسن الذي يكتب رواية مضمنة يكشف عنها الشكل الروائي.

سبق للكاتب الجزائري إسماعيل يبرير أن حاز عددا من الجوائز العربية، ولفت الانتباه إلى طريقته في الكتابة بعد روايته "وصية المعتوه" المتوجة بجائزة الطيب صالح عام 2013، ونال جائزة "محمد ديب" قبل سنة عن روايته "مولى الحيرة"، كما قدم له المسرح الجزائري بعض الأعمال المسرحية.