كتاب جديد لعبد اللطيف الهرماسي

"المجتمع والإسلام والنخب الإصلاحية في تونس والجزائر"

"المجتمع والإسلام والنخب الإصلاحية في تونس والجزائر"
  • القراءات: 1023
ق.ث ق.ث

ينخرط كتاب عبد اللطيف الهرماسي، "المجتمع والإسلام والنخب الإصلاحية في تونس والجزائر، دراسة مقارنة من منظور علم الاجتماع التاريخي"، الصادر حديثا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في نطاق جهد يرمي إلى استجلاء علاقة النخب الدينية بالمسعى الإصلاحي.

يمثّل موضوع علاقة النخب الدينية بالمسعى الإصلاحي، تيمة جديرة بالبحث بالنسبة إلى من يروم التعمّق في وجوه العلاقة بين الإسلام والحداثة، وفي نتائج الاختراق الذي حققته هذه الحداثة لحضارة ومجتمعات عاشت طويلا على مقدس ديني، أقامت معماره وأثثته، ثم جعلت منه معيارها في رؤية الكون وإدارة العلاقات الاجتماعية، قبل أن تصطدم بحداثة صدعت بنيانها وزعزعت كثيرا من وثوقياتها، وفرضت عليها طرح تساؤلات موجعة.

يدرس الكتاب (مقدمة وخمسة فصول وخاتمة في 480 صفحة بالقطع الوسط، موثقا ومفهرسا) التيارات والنخب الإصلاحية الإسلامية، باعتبارها التعبير الرئيس، خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، عن حيثيات الالتقاء بين الموروث الإسلامي والحداثة، بما مارسته من جاذبية وما أثارته من مخاوف، لاسيما أنها وردت مسلحة بالقوة الاستعمارية.

موروث ومؤسسات

في الفصل الأول، الموروث السياسي والديني في تونس والجزائر، يتناول عبد اللطيف الهرماسي تونس والجزائر، مبرزا التجانس والخصوصية في التركيبة الثقافية والتاريخ السياسي، ودلالات غلبة الإسلام السني المالكي، مفرقا بين إسلام الفقهاء وإسلام الأولياء. كما يتناول سلطة التقليد وازدواجية المذهبية من خلال المؤسسات الشرعية والنخبة العالمة. ويرى الهرماسي أن الانسجام بين الإسلام السني وظاهرة الولاية والطرقية في تونس، مثّل أرضية للتعايش بين الحكام والعلماء والصالحين؛ إذ أصبح الاعتراف بالأولياء والانتماء إلى الطرق جزءا لا يتجزأ من المصلحة الدينية، لا للعامة فحسب، بل للخاصة أيضا ومن بينهم العلماء. كما أن كثيرا من هؤلاء سعى إلى اكتساب رأسمال ديني واجتماعي إضافي عبر مسلك الانتماء إلى الطرق، وإن أمكن احتلال مراكزها القيادية.

عن دولة الأمير

في الفصل الثاني، الصدمة الاستعمارية وتدهور المؤسسات الإسلامية، يكتب الهرماسي عن دولة الأمير عبد القادر وإصلاحات خير الدين التونسي، وعن المشترك والخصوصي في أوضاع الاحتلال ومآل المؤسسات والنخب التقليدية. وتحت عنوان "المؤسسة الدينية التونسية في مواجهة بواكير الحداثة: العلماء ومشروع خير الدين"، يقول: "لئن قضى الاستعمار الفرنسي على محاولة الأمير عبد القادر بناء نواة دولة وطنية واستحداث مشكلة لنخب الحركة الإصلاحية والوطنية، التي لم تجد تقليدا سياسيا ومؤسسات تتخذ منها أرضية لبناء الهوية القومية، فإن المهلة التي أخذتها تونس قبل الالتحاق بأختها، أتاح لها أن تعيش تجربة مختلفة في التعاطي مع ضغوط القوى الأوروبية والتأثيرات الأيديولوجية للثورة البرجوازية؛ إذ فرض هذا الاحتكاك وضع حد للقرصنة، ثم تحجير العبودية في أربعينيات القرن التاسع عشر. وتمثل أبرز التحولات التي تمخضت عنه في إعلان عهد الأمان في نهاية الخمسينات، والمسعى الإصلاحي لخير الدين في السبعينات".

نخب ومصالح

في الفصل الثالث، "الحركات والنخب الإصلاحية: مرجعياتها وتشكلاتها ونماذجها"، يبحث المؤلف في التجديد الديني وصعوبات بناء الإصلاحية الإسلامية الحديثة، وفي التشكلات الإصلاحية في صفوف النخب التونسية والجزائرية. يكتب "بوسع الباحث أن يتبين اتجاهين رئيسين لمواجهة الأوضاع الناشئة عن الاستعمار: تيار معلمن ذو طابع سياسي غالبا، رفع عند ظهوره مطالب تتعلق بتحسين أوضاع المجتمع الأهلي وتمكينه من المشاركة في إدارة بعض شؤونه، ثم تطور وتجذر شيئا فشيئا، ليطرح مطالب ذات مضمون وطني تتعلق بالاستقلال والسيادة؛ وتيار إصلاحي ذو أبعاد ثقافية دينية أو اجتماعية غايته النهوض بالمجتمع الأهلي من خلال إعادة قراءة الموروث الإسلامي، وفق منظورات جديدة متأثرة بالحداثة، ومتخذة مواقف نقدية إزاء مفاهيم وأنماط تعامل تراها مسؤولة عن الانحطاط والضعف. ويتعلق الأمر بأنموذجين مثاليين، أي بصيغتين مختلفتين نظريا، لكنهما في الواقع، لا تحافظان على هذا الاستقطاب في الحالات كلها".

رهانات الصراع في الساحة الدينية

في الفصل الرابع، "رهانات الصراع في الساحة الدينية، تنافس المصالح ونزاع القيم"، يبحث الهرماسي في مسألتَي الإسلام التونسي بين سلطة التراث ونزعة التجديد، والإسلام الجزائري من حيث هو مقاومة ثقافية وصراع على الشرعية الدينية. ويرى المؤلف أنه يصعب اعتبار انهيار المؤسسة الطرقية في هذين القطرين نتاجا لفاعلية الأيديولوجيا الإصلاحية وحدها، وأشار إلى العوامل الموضوعية التي أضعفت قاعدتها الاجتماعية، وصدعت المناخ العقلي الملائم لها، "كما ينبغي أن نأخذ في الحسبان، تأثير التعارض بين الوجهة الوطنية التي سار فيها الإصلاح، وموقف العديد من مشايخ ومقدمي الطرق إزاء السيطرة الاستعمارية. علما أن هذه مسألة لا تحتمل التعميم: فهناك فارق بين القادة الدينيين الذين خضعوا لعلاقة القوة ولم تزد على ذلك، وكان حالهم حال جمعية العلماء التي قبلت بالنشاط في الإطار الذي رسمته السلطة الفرنسية، وبين موظفي الشعائر أو شيوخ الزوايا وأتباعها الذين تحولوا إلى أعوان للقوة المحتلة".

إصلاحات واجتهادات

00يتناول المؤلف في الفصل الخامس، "الإصلاحية والوطنية: الرموز الثقافية وتحولات المقدس"، الحداثة الاستعمارية ومفارقة إعادة إنتاج التداخل بين الديني والسياسي، والتعاضد والتعارض بين المقدس الديني والمقدس الوطني؛ يقول: "إذا كان من الجائز أن نقرأ المسار التاريخي للعلاقة بين عالم الإسلام والعالم المسيحي الأوروبي، وتاليا الغربي طوال الأربعة عشر قرنا ونيف الماضية، بوصفه مواجهة متعددة الأطر حرّكتها إرادة السيطرة على الثروات والأرض والبشر، فإن ثمة قراءة أخرى تنظر إلى تلك العلاقة باعتبارها مواجهة ثقافية - رمزية بين رؤيتين مركزيتين للكون، مواجهة غايتها الهيمنة الثقافية ومحورها الصراع بشأن المعنى؛ إذ تقتضي هذه الصورة تنسيبًا وتدقيقًا من ناحيتين: الأولى، أن المواجهة المذكورة لم تتخذ في الأحوال كلها صيغة الصراع العدائي والرفض المطلق للآخر، وأن النزاع لم يلغ مظاهر التعايش والتبادل والتلاقح، أي التثاقف؛ والثانية، أن ذلك المسار تميز منذ أوائل القرن التاسع عشر بافتكاك الغرب زمام المبادرة وفرض تفوقه على صعد عدة".

النخب الإصلاحية والعمل الديني

في الفصل السادس، "النخب الإصلاحية والعمل الديني: المسعى الاجتهادي وحدوده"، يسلط الهرماسي الضوء على الأزمة الدينية والإصلاح الديني، وعلى العلاقة بالنص بين سلفية العالم وسلفية المناضل، كما على مذاهب الفقه وحظ الاجتهاد بين عمل الفقيه وشواغل الداعية. يعتبر الهرماسي أن القوة الدافعة للتحول الاجتماعي والثقافي في ظل التأثير الغربي، تكمن في زعزعة الأسس التقليدية للثقافة، "وتحديدا ما حصل طوال قرن ونيف من تغيرات داخل المجتمعات الإسلامية في صيغ النشاط الاقتصادي والتنظيم السياسي وأسس الطبقات الاجتماعية والقيم الخلقية والأيديولوجيات، وفي الحياة العائلية والتربية، وكذلك في تصور ما يجب أن يتطلع إليه الفرد ويعمل من أجله".

في الخاتمة، "مكاسب الإصلاحية ومعوقاتها"، يقول الهرماسي إن إنجازات الحركة الإصلاحية في تونس والجزائر لم تحقق إلا على نحو منقوص التمشي الذي وضعه محمد عبده للإصلاحية السلفية الجديدة والغايات التي رسمها لها، فضلا عن أن تكون تطويرا وتعميقا له. وهو يشير إلى استحضار البعض التجربة التاريخية للإصلاح البروتستانتي في أوروبا - لم يخف عبده إعجابه بأنموذج مارتن لوثر - خصوصا دور الإصلاحية السلفية في عقلنة الحياة الإسلامية وعلمنتها.