الكوميديا الجزائرية بين «البارح واليوم»

أعمال خالدة وراهن يفرض التصحيح

أعمال خالدة وراهن يفرض التصحيح
  • القراءات: 1535
مريم.ن مريم.ن

تستحضر شريحة واسعة من الجمهور الجزائري مع مطلع كل رمضان، ذكريات الكوميديا التي كانت توقّعها أسماء من العيار الثقيل، رسخت أعمالها في الوجدان الجزائري، ولم تسمح لأعمال أخرى بأن تنافسها، كان سرها احترام الخصوصية الجزائرية، وجعل الضحك وسيلة للنقد والتوعية والترفيه بدون تصنّع أو ابتذال، لتحقق علنا قاعدة «السهل الممتنع».

ترتبط البرامج التلفزيونية الرمضانية وحتى السهرات بالفكاهة والكوميديا، لذلك يتم تكثيف هذا الإنتاج ليكون في الموعد، لكن الملاحَظ أن ما يُعرض لم يرق إلى ما قُدم في سنوات عز هذه الكوميديا، فالمفعول ليس نفسه رغم اختلاف الزمان، الذي يراه الكثيرون ليس مبررا للتراجع في مستوى الكوميديا.

ما يثير هذا الحنين هو غياب أعمال كوميدية راقية وناجحة على الأقل خلال هذه السنة، ما يدفع البعض إلى المطالبة باسترجاع الأرشيف ليتمتع به جمهور العائلات.

رسالة وليست تهريجا

تبقى الكوميديا الجادة ما بقي الزمن وإلا لمات تراث العملاق «شارلي شبلن»؛ فحتى اليوم ومنذ اختراع السينما الصامتة في بداية القرن الماضي، لايزال إلى اليوم يُضحك الملايين من البشر. وكذلك الحال بالنسبة لرواد الكوميديا الجزائرية التي انطلقت مع الكبار من أمثال الراحل رشيد القسنطيني، الذي اتخذ من فنه الساخر أداة للوقوف في وجه الاستعمار وأعوانه، وفي توعية الشعب الجزائري لا الضحك على ذقنه. يذكر من عرفه أن قسنطيني هُدد مرة؛ إذ قال له أحدهم إن يد أعوان فرنسا طويلة ستطالك، فسخر منه ورد: «إذا كانت يدك طويلة فأرجوك أن تُخرج لي قطعة نقدية سقطت مني في البالوعة «القذرة»، كدليل على وعيه وشجاعته، وهذه الشجاعة نفسها توارثها من جاء بعده، منهم رويشد، والتوري الذي أمتع شعبه، ثم مات بعد تعذيب نال من جسده النحيف، فلقد قدّس فنه واعتبره رسالة وطنية قبل أن يكون مجرد ضحك عابر وانتهى.

بقيت الكوميديا أقصر طريق ليصل بها الفنان إلى الجمهور، لذلك كثيرا ما شُبّعت بالرسائل والمواقف؛ سواء السياسية منها أو الاجتماعية. كما كانت في الستينيات والسبعينيات أداة مثلى، اتخذتها السلطات لنشر بعض القيم والأفكار الإيديولوجية؛ فمثلا عريوات في سكاتش مع الراحلين المفتش الطاهر و«لابرانتي»، يؤدي دور فلاح بسيط يخاف أن تؤمم الدولة بقرته التي لا يملك سواها، فيقوم المفتش الطاهر بشرح الأمر بشكل ساخر وممتع. وقبله كان الراحل «بوبقرة» يؤدي دور فلاح أيضا، يعتقد أن «الاشتراكية» ما هي إلا امرأة، وعندما يسأله رفيقه في الحقل أهي متزوجة أو «هجالة» يرد بأنها «هجالة»، ثم يؤدي دورا آخر يتهكم فيه على البرجوازية. ولايزال إلى اليوم مطلوبا وهكذا. وبالمقابل كانت هذه الأعمال أحسن فضاء للنقد السياسي والاجتماعي ورصد الآفات وبعض الأفكار البالية؛ ما يجعل المتفرج يقبلها بصدر رحب ليضحك ويفكر في نفس الوقت.

رمضان «لالة حنيفة» وأخواتها

تظهر الكوميديا أكثر في شهر رمضان، ليتعود عليها الجمهور في كل موسم، حيث كانت ترصد تفاصيل الحياة اليومية للعائلات وتخلق شخصيات لا يقوى أحد على نسيانها؛ منها شخصية «لالة حنيفة» لأكثر من موسم مع الرائعة السيدة نورية، التي أدت فيه دور عجوز سليطة اللسان تتعرض للمقالب في شهر الصيام، لكن قلبها لا يخلو من فعل الخير والتهجم على من يظلم أو ينحرف. ولاقت هذه الشخصية صدى كبيرا، وأصبحت تطلَق على كل من «يغلبه رمضان».

وكان العملاق الراحل محمد ونيش في سكاتشاته التي سلط فيها المكبر على المجتمع وطرح بأسلوبه الساخر والعفوي عدة ظواهر؛ من ذلك الطمع والأنانية والبذخ والفخفخة وغيرها، وميز عروض التلفزيون منذ السنوات الأولى للاستقلال؛ من ذلك رائعته «رمضان كريم» مع الراحلة فتيحة بربار وفريدة صابونجي.

وسار في هذا الدرب أيضا الرائع محمد حلمي والحاج رحيم، اللذان عبّرا بدقة عن شخصية الجزائري خاصة في الشهر الكريم.

بداية من الثمانينيات ظهر جيل آخر لا يقل موهبة، أغلبه جاء من المسرح، فحققت سلسلة «أعصاب وأوتار» ما لم يحققه أحد، ورافقت المشاهد في رمضان وغيره، وكانت ترصد من خلال ذلك يومياته في البيت والعمل والسوق والشارع بأدق التفاصيل، لتعرض ضمن ذلك الخصوصية وحالة المجتمع النفسية والاقتصادية وغيرها. وفي كل حلقة يتم تناول موضوع من مواضيع الراهن الجزائري كغلاء الأسعار أو النرفزة أو الاكتظاظ وهكذا، في قالب ساخر بعيد عن التكلف والخطاب المباشر والضحك غير المبرر، ولذلك عاشت هذه السلسلة لسنوات، وكادت أن تكون أرشيفا لتطور وتحول المجتمع الجزائري. وتذكر «المساء» أنها عندما حضرت منذ سنتين تكريم طاقم العمل بإحدى قاعات العاصمة أُغلق وسط العاصمة عن آخره بسبب ازدحام الجمهور وتهافته على دخول القاعة وتقديم التحية لهؤلاء النجوم مع زغاريد العائلات؛ مما أثر كثيرا على ممثلي ومخرج السلسلة.

ومع سنوات الجمر جاءت سلسلة «بلا حدود» التي نافست من حيث المشاهدة، مباريات الدوري الأوروبي. واستطاع أبناء الحمري أن يجمعوا الجزائريين على ابتسامة عريضة رغم الحزن والألم.

القعدات بروح جزائرية خفيفة

لم تكن البرامج الرمضانية تقتصر على الأفلام والسكاتشات الكوميدية، بل كانت هناك أيضا قعدات يطغى فيها الضحك، كما كانت الحال مع الراحل عمي مراد وعبد المجيد مسكود ومع الفنان «السطايفي» في جلساته الحميمية، وكانت في قمة الكوميديا. وعرفت تلك الفترة تنظيم فقرات كوميدية في الحفلات الغنائية ينشطها ألمع النجوم؛ منهم جعفر باك وحسن الحسني وقاسي تيزي وزو وغيرهم.

وتبقى استثناءات اليوم تستحق العرفان، لكن السواد الأعظم مال للتهريج في غياب النصوص الجادة والحبكة الفنية والمشاهد المقنعة والحوار السلس والارتجال الممتع واللهجة الأصيلة.