بلغت رقما يثير الفزع

"الحرقة"... ثقة مطلقة في «البوطي» واندفاع نحو المجهول

"الحرقة"... ثقة مطلقة في «البوطي» واندفاع نحو المجهول
  • القراءات: 3463
❊ أحلام محي الدين/ ج.الجيلالي/ نور الهدى بوطيبة ❊ أحلام محي الدين/ ج.الجيلالي/ نور الهدى بوطيبة

بلغت ظاهرة الهجرة غير الشرعية أو "الحرقة" رقما قياسيا يثير الفزع  خلال السنة الفارطة، حسبما أكدته الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان في بيان لها، استنادا إلى إحصائيات قيادة حرس السواحل التابعة للقوات البحرية، حيث تم إحباط محاولات هجرة 3109 أشخاص، من بينهم 186 امرأة و840 قاصر، حاولوا الهجرة من الجزائر عبر السواحل إلى الضفة الأخرى من البحر المتوسط، وتمت الإشارة إلى أن عدد «الحراقة» أكبر من هذا، فمنهم من نجحوا في الهجرة ووصلوا إلى الشواطئ الإسبانية والإيطالية، ثم توزعوا منها على مختلف الدول الأوروبية. كما أن هناك عشرات المفقودين الذين غرقوا في البحر، في الوقت الذي ترحّل الدول الأوروبية أكثر من 5000 جزائري من المهاجرين غير الشرعيين سنويا. وقد شهدت الظاهرة استنكارا خلال الفترة الأخيرة، بعد تعريض بعض العائلات أطفالها لخطر الموت الأكيد،  في رحلة عبر «البوطي» الذي ما يفتأ ينقلب بسبب ثقل الأشخاص أو لموجة عاتية.

  عمد السيد مولود شريفي، والي وهران، إلى تشكيل لجنة لمحاربة الظاهرة من شواطئها التي تعرف حركة كبيرة في الهجرة غير الشرعية، ضمت كافة الفاعلين في ميدان محاربة هذه الظاهرة السلبية من ممثلي الأمن الوطني والدرك الوطني والحماية المدنية ومصالح حراسة الحدود والشواطئ، بغرض متابعة الوضع عن كثب ودراسة الظاهرة والتعرف على أسبابها، بهدف إيجاد الحلول واقتلاع فكرة الموت من جذورها. علما أنه منذ بداية العام الجاري، تم توقيف ما لا يقل عن 144 "حراقا" على مستوى ساحل مداغ. عمدت «المساء» إلى نقل أراء المواطنين وكذا المختصين والفاعلين الاجتماعيين حيال الظاهرة، والحلول المقدمة من قبلهم للخلاص من الأزمة التي تؤرق الجميع، حيث أشار المختصون في الإعلام من جهتهم  إلى تبني إستراتجية وطنية إعلامية لمحاربة الظاهرة إعلاميا بعيدا عن السياسة، في حين أكد المختصون في علم النفس أن افتقاد الأسر للحوار والتواصل هو ما يغذي الظاهرة. من جهته، أشار عميد الأئمة الجزائريين إلى أن تفاقم الظاهرة متوقع والحل في علاجها لا بتحريمها.

أحلام محي الدين

"الحراقة" في قوارب الموت أحلام «ساذجة» تكونت لدى الشباب «بالمعاندة»

دوافع اختلفت من شاب لآخر، إلا أن الحلم «الساذج» واحد، وهو مغادرة القارة للاتجاه نحو أوروبا، واقع خلق مصطلح «الحراقة» أملا في تغيير الحياة نحو الأحسن، هذا ما لمسناه لدى بعض الشباب الذين مسهم استطلاع «المساء» حول موضوع الحرقة، حيث أجمع شباب دون 30 سنة، على أن الهجرة نحو أوروبا تمثل الحلم بالعيش الكريم، لخصها العديد ببيت وسيارة وعمل وراتب جيد، كأن أوروبا أصبحت الحل الوحيد لكل مشاكلهم، بغض النظر عن الحالة المزرية التي سيعيشونها في بادئ الأمر، وكأنهم على استعداد للمجازفة مهما كلفهم الأمر.

 

أحاديث كان بعضها مؤلم والبعض الآخر فيه نوع من الحكمة وأخرى تقشعر لها الأبدان، على ألسنة مراهقين، كأن الهجرة أصبحت شرعية في نظرهم، وأن الموت على قوارب قديمة أرحم من البقاء على أرض الأجداد.

عدد الشباب خلفيات الفعل، كان أغلبها يدور حول موضوع واحد وهو الأوضاع الاجتماعية المزرية، حسبما أشار إليه مجموعة من الشباب الذين تحدثنا معهم، من فئات مختلفة، وكأن الظاهرة لم تعد تمس فئة معينة، وإنما باتت كالعدوى التي تنتقل من شخص لآخر، بين الفقير والغني، الجامعي والأمي، المتزوج والأعزب، العامل وحتى العاطل، حيث باتت القناعة أقوى من الواقع، قناعة أن الانتقال إلى الضفة الأخرى هو ما سيجلب العيش الكريم براتب شهري ممتاز وسيارة جميلة ومسكن مضمون.

على قوارب قديمة تتم الرحلة غير المضمونة، حيث تترك فيها الأماكن لقارورات المازوت، ويكتفي "الحراقة" بالجلوس على حافة القارب، لا تهمهم راحة الرحلة بقدر ما يهمهم الوصول بأيه وسيلة إلى بلاد المهجر، هي الصور والفيديوهات التي كثيرا ما تداولتها وسائل الإعلام ونشرتها أيضا مختلف وسائل التواصل الاجتماعي. مما جعل البعض يتخوف من مصير هؤلاء، في حين اعتبرها آخرون ضرورة لمستقبلهم، حيث يقتدى شباب بسابقيهم، لذلك بحثوا عن سبل القيام بالمثل، مما جعل مجموعة كبيرة من شباب اليوم يسألون عن طريق «الحرقة» وثمنها وسبلها حتى وإن لم تكن في برنامجهم الحالي، إلا أنها تبقى بالنسبة لهم معلومة لابد أن تكون مكتملة المعالم، كأن ذلك احتياط بالنسبة لهم. أنيس دحماني، شاب لم يتعد 22 سنة من العاصمة، أشار إلى أنه على علم بكل تفاصيل الرحلة، حيث سبق وسأل عن الثمن الذي يدفعه للقيام بذلك، ومن أية ولاية وكم ستستغرق الرحلة وغير ذلك من التفاصيل، موضحا أنه أيضا على علم بالعواقب والظروف التي سيواجهها في حالة الإمساك به، تفاصيل أثارت دهشتنا، كأنه أضفى لقاموسه ثقافة «احتياطية» في حالة قراره «الخروج من الوطن»، كما عبر عنه.

من جهة أخرى، كان الحديث تقريبا نفسه لمجموعة من الشباب جالسين في فترة كان كل عامل في مكتبه، وكل طالب في قسمه، دليل على أن هؤلاء لا عمل  لهم ولا دراسة تشغلهم، يتجولون في الشوارع، خلقوا لأنفسهم أحلاما تعد هدفا لتغيير أوضاعهم الاجتماعية التي وصفوها بالمزرية.

لم يعد فيروس «الحرقة» يمس الرجال فقط، وإنما بلغت الحمى كذلك الفتيات اللواتي أبدت الكثيرات ممن تحدثنا إليهن أن الهجرة إلى أوروبا هي حلم الكثيرات، حيث تختلف السبل والدوافع أيضا، هذا ما أشارت إليه مريم عيلول، طالبة جامعية، قالت: «الهجرة إلى أوروبا هي حل للكثير من المشاكل، خاصة الاجتماعية التي يعاني أغلب الشباب منها، كصعوبة حيازة مسكن أو سيارة أو حتى عمل جيد بأجر يضاهي سنوات الدراسة التي قد يفني الفرد شبابه في سبيلها، كلها أسباب تدفع الفرد إلى البحث عن بديل في دولة أجنبية، حتى وإن كان مصيره مجهولا في ذلك، إلا أنه على استعداد بالمجازفة، لكن سبيل الفتاة في القيام بذلك يختلف.. إلا في حالات قليلة، إذ أصبحنا اليوم نشاهد فتيات اخترن كذلك ركوب قوارب الموت للهجرة، في حين فضلت أخريات اللجوء إلى خيار أكثر شرعية، وهو مواصلة الدراسة في أوروبا، أو الزواج من مغترب أو غير ذلك، أو بكل بساطة السفر بطريقة شرعية ومحاولة البقاء هناك بطريقة غير شرعية والأمل في تسوية الأوضاع والوثائق لجعل البقاء هناك قانونيا والاستفادة من مزايا الهجرة».

بين مؤيد ومعارض، كان هناك أيضا من الشباب من أبدى معارضته  للفكرة، هو حال الشاب عبد الكريم بتول، 30 سنة، عامل في أحد محلات الهواتف النقالة الذي قالفكرة الخروج من الوطن دون الرجوع إليه لا تتبادر إلى ذهني مطلقا، فرغم الأوضاع التي قد أعيشها، إلا أنني على قناعة بأن الأوضاع التي أجدها هناك لا تكون مطابقة للحلم الوردي الذي يصنعه البعض في مخيلتهم، فالعنصرية هناك وحدها كافية لجعل من وطننا ملجأ كرامتنا وعزتنا الوحيد، مشيرا إلى أن العديد من رفاقه سبق لهم أن جازفوا بحياتهم نحو أوروبا، منهم من وصل هناك ليبدأ رحلة جديدة للبحث عن وثائق وعمل، ومنهم من وصل ليصبح في عيون شرطة تلك البلاد مجرما، ليعاد ترحيله إلى بلده بطريقة مخزية.. ومنهم من كان لقمة لأسماك المحيط».

من جهته سمير شيلة، 28 سنة، أوضح أنه على يقين بأنه لا وجود لأي  شخص قادر على الهجرة وترك أسرته لولا الأوضاع المزرية التي يعيشها، فباستثناء بعض الحالات التي يقال عنها متهورة، طائشة وتبحث عن الحرية المطلقة أو عن اللهو وتغذية نزوات اجتماعية، إلا أن هناك حالات تعيش اختناقات مادية واجتماعية تجعلها تفكر في الهجرة، مشيرا إلى أنه على قناعة بأنه لولا تحقيق أبسط ضروريات الحياة لنفس هؤلاء الشباب بتوفير مسكن لائق، عمل جيد، سوف يعيد هؤلاء التفكير مليا قبل المخاطرة بحياتهم، ولكل قناعته الخاصة، ففي نفس الحالة نجد أن شبابا آخرين يعيشون أوضاعا لا تتوفر فيها أبسط ضروريات الحياة، دون الحديث عن الرفاهية والكماليات، إلا أنه رغم ذلك تجده يعمل جاهدا للبحث عن لقمة عيش في وطنه دون التفكير في الخروج منه، أو ترك خلفه عائلته أو أمه التي تتعذب لفراقه.

نور الهدى بوطيبة

حجيمي رئيس نقابة الأئمة الجزائريين:تفاقم الظاهرة متوقع والحل في علاجها لا بتحريمها

لم يبد جلول الحجيمي، رئيس نقابة الأئمة الجزائريين، استغرابه من انتقال ظاهرة الهجرة غير الشرعية من فئة الشباب إلى النساء وحتى الأطفال، وقال في تصريح لـ»المساء»، بأن تطور الظاهرة هو تحصيل حاصل لترك الأوضاع على ما هي عليه وعدم معالجتها أو البحث عن حلول لها. مشيرا إلى أنه تحدث في أكثر من مناسبة عن ظاهرة الحرقة كمشكل اجتماعي اقتصادي، وطالب بالمناسبة، بضرورة التعجيل في إجراء دراسة   مستفيضة من مختصين لتشريح ظاهرة الحرقة، لأنها ـ يقول ـ مجال واسع يحتاج إلى بحث معمق لإيجاد الحلول المناسبة والجذرية، والابتعاد قدر الإمكان عن تقديم الوعود التي تحولت هي الأخرى إلى سبب من أسباب الهجرة غير الشرعية. حول المغامرة بالأطفال في قوارب الموت، أفاد محدثنا بأنه كهيئة دينية يستنكر الظاهرة، ليس لأنها تمس بالأطفال فقط، وإنما ظاهرة الهجرة غير الشرعية أو «الحرقة» ككل، لأنها تدخل في قوله تعالى: «ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة»، ويضيف محدثتنا: «حيث نسعى إلى ترهيب الناس من خلال تحريمها، لأن عامة الناس عند الخوض في أمور الدين نجدهم يستجيبون». مشيرا إلى أن من الأسباب التي جعلت العائلات تقرر ركوب قوارب الموت ولا تبالي بحجم الخطر الذي يترصدها يقول: «قلة القناعة، الأمر الذي يدعونا كل من جانبه، إلى العمل على توعية وتحسيس المواطنين من خلال خطب الجمعة»، مشيرا إلى أن التحسيس يظل غير كاف لأن الظاهرة تحتاج إلى حلول جذرية، يقول: «بالمناسبة، أقترح  أن يتم إنشاء خلايا إصغاء للوصول إلى لب المشكل، ومحاولة علاجه من أجل وضع حد لهذه الأزمة ـ إن صح التعبير ـ خاصة أن الاعتقاد بأن  بلوغ الضفة الأخرى يعني الوصول إلى الجنة الوردية، قول مردود عليه».

بهدف معالجة قضية «الحراقة» لجنة ولائية لمعالجة الظاهرة بوهران

شكلت ظاهرة الهجرة غير الشرعية انطلاقا من مختلف سواحل ولاية وهران في الآونة الأخيرة، أو ما يعرف بظاهرة «الحرقة» عند عامة الناس موضوعا حساسا، لاسيما بعد تسجيل عدد من الحالات الاجتماعية التي ذهب ضحيتها في نهاية المطاف، عائلات بأكملها،  آخرها طفلة لا يتعدى عمرها ثلاث سنوات.

في هذا السياق، اتخذت مصالح وزارة الداخلية والجماعات المحلية جملة من التدابير، منها التعليمة التي تلقتها مصالح الولاية بضرورة الاهتمام بمعالجة هذه الظاهرة السلبية والمشينة التي أصبحت ـ للأسف ـ جد عادية بالنسبة للكثير من العائلات التي تعمل على الهجرة غير الشرعية،  اعتقادا منها أن الحياة في الضفة الشمالية للمتوسط جنة. على هذا الأساس، تم على مستوى ولاية وهران تشكيل لجنة من طرف والي الولاية، السيد مولود شريفي، تضم كافة الفاعلين في ميدان محاربة هذه الظاهرة السلبية.

تضم هذه اللجنة التي تجتمع يوميا كلا من ممثلي الأمن الوطني والدرك الوطني والحماية المدنية ومصالح حراسة الحدود والشواطئ، مهمتها الأساسية متابعة الوضع عن كثب ودراسة الظاهرة والتعرف على أسبابها ومقوماتها، بالتالي العمل الفعلي على إيجاد أهم الحلول لها، من أجل اقتلاع هذه الفكرة من جذورها من طرف الأشخاص الذين يفكرون في ركوب قوارب الموت والاتجاه نحو الضفة الشمالية، اعتقادا منهم بأنهم سيجدون الفردوس بمجرد وصولهم إلى الضفة الأخرى وكأن هناك من يستقبلهم بالورود. يذكر بالمناسبة، أن ظاهرة الحرقة تنامت في الآونة الأخيرة بشكل رهيب،  وقد تمكن حراس الشواطئ بتاريخ 23 جانفي المنصرم من توقيف 12 "حراقا" على مستوى بلدية عين الترك، كما تم قبلها بأقل من أسبوع، توقيف مجموعة أخرى من "الحراقة" تتكون من 14 شخصا على مستوى رأس كاربون، غير بعيد عن عين الترك غرب وهران. هذه الظاهرة التي راح ضحيتها الكثير من الشباب الحراقة من الجنسين، منهم من تم إنقاذه ومنهم من لقي حتفه، وتم استخراج جثته، مع التعرف على هويته،  علما بأن هناك من لم يتم التعرف عليهم إلى حد الآن، في الوقت الذي لم يتم العثور على الكثير منهم، كما هو حال الطفلة المفقود ذات الثلاث سنوات، التي أخذتها عائلتها من أجل تحقيق أهدافها المتمثلة في الحصول على الإقامة الدائمة بإسبانيا. الجدير بالذكر أنه لم يتم العثور على جثتها إلى غاية الآن، رغم تكثيف عمليات البحث عنها من طرف المصالح المختصة. يذكر بالمناسبة، أنه منذ بداية العام الجاري، تم توقيف ما لا يقل عن 144 حراقا على مستوى ساحل مداغ، على الحدود الغربية لولاية وهران المتاخمة لولاية عين تموشنت، بسبب تكثيف الرقابة من طرف المصالح الأمنية المختصة التي تعمل على محاصرة كل محاولات الهجرة السرية غير الشرعية من سواحل الولاية باتجاه إسبانيا. يذكر بالمناسبة، أن عمليات الحرقة التي تقوم بها مجموعة من الشباب،  والتي تترصد لها المصالح الأمنية، مكنت هذه الأخيرة من توقيف عناصر ثماني شبكات مكونة من 18 شخصا على مستوى حي سيدي الهواري وكريشتل، حيث تمكنت عناصر الأمن المعنية بالعملية من استرجاع شاحنة وثلاث سيارات نفعية ومحركات آلية مخصصة للقوارب المطاطية التي تستعمل في عمليات الهجرة السرية.

ج.الجيلالي