"تأملات" عبد اللاوي في رواق "راسم"

رحلة تجريدية إلى عمق الحياة

رحلة تجريدية إلى عمق الحياة
  • القراءات: 661
❊لطيفة داريب ❊لطيفة داريب

الولوج إلى عالم مراد عبد اللاوي لا يمكن أن يكون بالفهم العقلاني، بل بالشعور، حيث يغوص الزائر في عالم تجريدي شاعري، ومع ذلك يمكن أن يضع قدمه فيه بعد أن وضع الفنان عناوين للوحاته، لكن يبقى المجال واسعا لزائر المعرض كي يقدّم شروحاته الخاصة وحتى التعبير عن الأحاسيس التي حرّكت وجدانه، بعد أن قرر أن يكون جزءا من عالم عبد اللاوي في معرضه الذي يدوم إلى غاية السادس والعشرين من الشهر الجاري برواق "محمد راسم" تحت عنوان "تأملات".

قام مراد عبد اللاوي بدور الدليل لـ "المساء"، من خلال جولة قادتنا إلى أرجاء رواق "راسم" الذي يحتضن "تأملات".وفي هذا قال إن هذا العنوان مناسب تماما للمنحى الذي تأخذه لوحاته، باعتبار أن أعماله تفيض بالروحانيات إضافة إلى اتسامها بالعمق، مشيرا إلى أنه لا يهتم برسم الأسلوب الواقعي، بل كل همه تقديم الواقع بطريقته الخاصة؛ فهو فنان معاصر يتماشى مع الجديد، ويمارس فنا له مكانته في عصرنا هذا، ألا وهو الفن التجريدي.

اهتمام بتدرجات الرمادي

ويركز الفنان على اللون الرمادي في أعماله. وفي هذا قال إنّه يختار الألوان الرمادية الملونة؛ أي يهتم بتدرجات اللون الرمادي الذي يجده مناسبا للتعبير عن العمق الذي يريد أن يصل إليه في الحياة، باعتبار أنه يرى من هذه الحياة جانبها المظلم أكثر من شقها المضيء، وهذا لا يعني أنه متشائم بالمرّة، بل هو واقعي فحسب. وأشار الفنان إلى جملة من العراقيل التي تواجه المواطن الجزائري، والتي يعبّر عنها في لوحاته؛ فهو المرآة التي تعكس هموم أبناء شعبه، ألا يقال: "وفي القبح جمال أحيانا"؟ كما أن مثل هذه المواضيع تشكل قوة للوحاته، مضيفا أن معظم الفنانين يبحثون عن الأمور السهلة، أما هو فيتجه بشكل انفرادي، نحو ما هو صعب وحيث لا تذهب إليه الأغلبية.

ويهتم الفنان بوضع تفاصيل كثيرة في أعماله رغم أنها تدخل في سياق الأسلوب التجريدي. كما يستعين بالعديد من المواد من الكرتون والرمل والورق وغيرها، ليقدم لها بعدا أكبر ويُذهب عنها المظهر الناعم. وفي هذا اعتبر أنّ دراسته في مدرسة الفنون الجميلة وتكوينه الأكاديمي مكّناه من التعامل مع الجانب التقني في الفن بشكل يسير.

ممارسة الفن بكل دقة

وفي هذا السياق، قال التشكيلي إنه يحاول ممارسة الفن بكل دقة، فيعمل على موضوع اللوحة وحول الأمور المتعلقة الأخرى، وهذا في مهمة البحث عن تقديم عمل خاص ومتفرد، فمثلا كيف يتحكم في موضوع لوحة بمساحة 1.70 على 1.14؟ كيف يهتم بالتفاصيل، وهذا من اليسار إلى اليمين ومن الأعلى إلى الأسفل والعكس صحيح؟ وغيرها من الأمور.

وماذا عن النقطة الحمراء أو البرتقالية الموجودة في كل لوحات عبد اللاوي؟ يجيب الفنان بأن هذه النقطة تمنح لوحاته حيوية وإيقاعا، كما أنها تثبت تحكمه في التقنية، إضافة إلى أنها تمتزج تماما مع موضوع اللوحة، فهي ليست غريبة عنها، بل بصمة من بصمات الفنان. وتوقف عند لوحة "الجرح" التي قال إنها رفقة لوحة "شظايا"، تعبّر عن مرحلة العشرية السوداء التي عاشتها الجزائر، مضيفا أنها مرحلة مأساوية لكنها كانت ثرية بالنسبة للفنان، الذي وجد فيها، مع الأسف، مواضيع للتعبير. كما أشار إلى إمكانية استلهام الشباب مستقبلا وحتى الأدباء والفنانين والمخرجين، من هذه اللوحات، لتناول هذه المرحلة الرهيبة التي عاشتها الجزائر.

حضور الأمل والروحانية

«الجرأة" قال الفنان إنّها تعبّر عن جرأة القبيح في إبراز قبحه، في حين الجميل منزو يغلبه الحياء، ليتوقف مجددا ويتحدث عن جملة من العراقيل التي يواجهها الجزائري، والتي ترجمها بشكل دقيق في مجموعة من اللوحات تحت عنوان "عقبة"، قائلا إن الجزائري أصبح يعيش عراقيل جمة، وهي ليست داخلية في الأصل بل منبعها الخارج، أي أن الظروف الخارجية تؤثر سلبا على الإنسان، وهي الأساس في كل العجز والفشل والحزن الذي يصيبه.

كما أكد مراد عدم قدرته على التعبير اللفظي، بل يحسن التعبير عن طريق الرسم، فهو يقدم أفكاره بشكل بصري، معتمدا على الفنون التشكيلية، أي تقديم "الشكل" في لوحاته، مشيرا إلى أن قراءة اللوحات غائبة في الجزائر لغياب الناقد وقلة الاهتمام بهذه الفنون حتى في المؤسسات التربوية، ليغيب الذوق الفني حتى في اللباس.

وعن لوحة "الخفي" قال الفنان إنه رسمها عن صديق خفي يحكي له كل شيء ويتقاسم معه المر والحلو بدون إصدار أي حكم، ألا وهو "الأنا الباطني". أما لوحة "الثقب الأسود" فهي عن كل الأمور غير السوية التي نعيشها في عصرنا هذا.

وماذا عن الضوء المنبعث من لوحة "وحدتي"؟ يجيب الفنان بأن هذا الضوء يعبّر عن الأمل في الحياة. أما عن الرسومات المتجهة إلى أعلى فاعتبرها روحانية وترتقي إلى الأعلى، حيث تستقر الروح ويطيب الخاطر، مضيفا أنه أحيانا يتجه إلى التصوف، فالمهم، حسبه، أن يكون الإنسان نفسه، وأن لا يتشبه بالآخر.

لوحة أخرى بعنوان "الرفض"، رسم فيها الفنان شكلا يوحي بأنه امرأة تحاول أن تحرر من أشياء وأشياء. وفي هذا قال إن الكثير من النساء فقدن أنوثتهن نظرا للصعوبات التي يواجهنها في هذا المجتمع المعقّد، مضيفا أن المرأة لم تعد امرأة، ولا الرجل أصبح رجلا.

بعيدا عن اللوحات الرمادية للفنان مجموعة من اللوحات التي يطغى عليها اللون الأزرق وأخرى اللون الأحمر، قال عنها الفنان إنه يتحكم في جملة من الألوان، وأن عشقه لتدرجات الرمادي لا يمنعه من إلقاء نظرة على ألوان أخرى.

وقبل أن نغادر الفضاء استوقفتنا لوحة "قصة حب" أو "رومانسية"، التي رسمها الفنان بألوان ساخنة، ووضع فيها مواد مثل قطعتي كرتون؛ وكأنهما نافذتان على حياة مفعمة بالأمل، وهو أمر لوحة أخرى كبيرة مثلها وتجاورها، تحمل عنوان: "حنان" رسمها بألوان فاتحة، يشعر الزائر برقة ونعومة كبيرتين.

لم يشأ مراد عبد اللاوي ابن مدينة عين البيضاء بأم البواقي ومدرّس التربية التشكيلية بمتوسطة، أن تختم هذه الجولة قبل أن يدعو وزارة الثقافة إلى إنشاء لجنة تقتني أعمال الفنانين الجزائريين، وأصحابَ المال إلى شراء هذه اللوحات والأعمال الفنية الجزائرية التي تمتاز بمستوى فني راق بدلا من شراء أعمال صينية لا قيمة فنية لها.

لطيفة داريب