الذكرى 56 لأحداث 17 أكتوبر 1961

جريمة ضد الإنسانية في قلب باريس

جريمة ضد الإنسانية في قلب باريس
  • القراءات: 627
محمد.ب محمد.ب

يحيي الشعب الجزائري اليوم الذكرى 56 لمجازر 17 أكتوبر 1961 التي كتبت إحدى الصفحات القاتمة لتاريخ فرنسا الاستعمارية، إثر ارتكابها مجازر شنيعة بعقر دارها بباريس ضد أفراد الجالية الجزائرية، التي خرجت يومها في تظاهرات سلمية تطالب برفع حظر التجول، وفك قيود الرقابة البوليسية على تحركاتهم العادية، وتنادي بحق الجزائر المشروع في الحرية والاستقلال، في الوقت الذي لاتزال فرنسا المعاصرة تأبى الاعتراف بتلك الجرائم التي ارتُكبت في حق الإنسانية بالرغم من تحركات الحقوقيين والمؤرخين والشرفاء، لحملها على الاعتراف بهذه المجازر الشنيعة وغيرها من الأعمال الإجرامية التي لاتزال محفوظة في خانة الممنوعات في الذاكرة الوطنية للفرنسيين.

لقد سجل تاريخ الثورة الجزائرية الحافل بالبطولات يوم الثلاثاء 17 أكتوبر 1961 بأحرف من ذهب، عرفانا بتضحيات الجالية الجزائرية بالمهجر، وإسهامها الفعال في دفع الثورة التحريرية نحو النصر؛ تخليدا لتاريخ خروج المهاجرين الجزائريين إلى شوارع باريس وضواحيها في مظاهرات سلمية، أرادوا من خلالها المطالبة برفع حظر التجول وفك قيود الرقابة البوليسية عن تحركاتهم العادية؛ تلبية لنداء فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، التي سجلت حالات العنف المتكررة الممارَسة من قبل الشرطة الفرنسية في حق الجزائريين.

وكانت تلك العمليات الوحشية التي استهدفت المهاجرين الجزائريين، بدأت قبل تاريخ 17 أكتوبر 1961 بأيام، حيث نفّذت الميليشيات العنصرية المشكّلة من عناصر البوليس الفرنسي وعملائه بداية من يوم 3 أكتوبر 1961، اغتيالات واعتداءات ضد المهاجرين الجزائريين، فيما أعلن المدير العام للشرطة البلدية "ليغاي موريس" في 5 أكتوبر، أنه تلقّى تعليمة صادرة عن مدير الشرطة "موريس بابون"، تعلن عن إجراء "حظر التجول لجميع الفرنسيين المسلمين الجزائريين من الثامنة والنصف مساء إلى الخامسة والنصف صباحا، مع إغلاق كل المقاهي التي يملكها أو يرتادها الجزائريون ابتداء من السابعة مساء"، مبررا هذا الإجراء العنصري بـ "وضع حد للإرهاب الجزائري وتدعيم حماية أفراد الشرطة".

لكن حقيقة الأمر أن ذعر السلطات الاستعمارية من تصاعد الكفاح المسلح في الجزائر وتخوفها من تكرار سيناريو النشاطات العسكرية الفدائية التي قام بها مناضلو جبهة التحرير الوطني بفرنسا في 25 أوت 1958 في معظم المدن الفرنسية الكبرى، جعل قوات الشرطة تقابل المتظاهرين بالغازات المسيلة للدموع والعصيّ وطلقات الرصاص.

وذكرت بعض شهادات الفرنسيين عن تلك الأحداث، أن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تلك المجازر الشنيعة، شملت بالأساس محاولة فرنسا تكسير العمل التعبوي لصالح جبهة التحرير الوطني داخل فرنسا، كون هذا العمل يغذّي، حسبها، الكفاح المسلح بالجزائر، ويدعم ميزانية الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ولذلك كانت السياسة الفرنسية ترتكز على فرض حصار مشدد على المهاجرين الجزائريين العاملين بفرنسا، من خلال إقرار نظام حظر التجوال.

وتبعا لهذه السياسة العنصرية قامت فيدرالية "الأفلان" في فرنسا بتنظيم مسيرة بقلب المدن الفرنسية مطلع شهر أكتوبر 1961، للتنديد بالتمييز العنصري، وتكسير قانون حظر التجول المفروض على الجزائريين، وتم الاتفاق على تاريخ 17 أكتوبر 1961 لبداية سلسلة مظاهرات مبرمجة لـ 3 أيام متتالية، يخرج خلالها الجزائريون والجزائريات عبر كامل أرجاء فرنسا، للمطالبة بإلغاء حظر التجول والإفراج عن المعتقلين الجزائريين.

وتوجه العمال الجزائريون المقيمون بباريس بعد خروجهم من مقرات العمل في حدود الساعة الخامسة إلى ساحة "الأوبرا"، التي اختيرت موقعا للتجمع؛ باعتبارها من الأماكن الاستراتيجية بباريس، حيث شارك في المظاهرات حوالي 80 ألف متظاهر طافوا 20 حيا من الأحياء الرئيسة للعاصمة الفرنسية.

ولصدّ هذه المسيرات قامت الشرطة الفرنسية بسد كل المنافذ التي توصل إلى ساحة "الأوبرا"، ودخلت في صدام مع المتظاهرين. وعند ساعات متأخرة من مساء نفس اليوم، أعطى محافظ شرطة باريس السفاح موريس بابون أوامر لجنوده من الشرطة والحركى، بقمع هذه التظاهرة، فتم التصعيد من وتيرة العنف والبطش، واستخدام العصيّ والقنابل المسيلة للدموع والرصاص، حيث تم قتل وجرح العديد من المتظاهرين.

وللتغطية على فظاعة الجريمة ووحشيتها لجأ البوليس الفرنسي إلى الإلقاء بالمهاجرين الجزائريين أحياء في نهر "السين". وأعلنت السلطات الفرنسية آنذاك عن سقوط 200 ضحية، في حين أن عدد الضحايا فاق 500 بين شهيد ومفقود. وامتدت حصيلة الاعتقالات لتشمل 7500 جزائري من مختلف الشرائح تم الزج بالعديد منهم في السجون. وظلت عشرات جثث الجزائريين تطفو فوق نهر "السين" أياما عديدة بعد تلك الليلة السوداء، وعشرات أخرى اكتُشفت في غابتي "بولون" و«فانسون"، بالإضافة إلى عدد غير معروف من الجزائريين تم التخلص منهم رميا من على متن الطائرات، ليبتلعهم البحر.

إحياء الجزائريين ومعهم الشرفاء من بني البشر على غرار الحقوقيين والمؤرخين الفرنسيين، الذكرى ٥٦ لمجازر 17 أكتوبر 1961، لايزال مقرونا بتحركات حثيثة يقودها الأحرار من الطبقة المثقفة في فرنسا، للدفع بالسلطات الفرنسية إلى الاعتراف الرسمي بهذه المجازر الشنيعة ورد الاعتبار لاسم فرنسا الجمهورية وتطهيره من بشاعة الجرائم التي اقتُرفت في ذلك اليوم، حيث وجّه هؤلاء مؤخرا رسالة إلى الرئيس مانويل ماكرون، يطالبونه بتسجيل وقفة شرف مع التاريخ بمناسبة الذكرى 56 التي تقرر بمناسبتها، تنظيم ليلة بيضاء بباريس؛ تخليدا وتكريما لأرواح ضحايا تلك الجرائم التي ارتُكبت في حق البشرية.