رفضت الانخراط في منطق الاستقطاب الدولي ورفعت صوت المستضعفين عاليا

الدبلوماسية الجزائرية أداء باهر وأدوار استراتيجية

الدبلوماسية الجزائرية أداء باهر وأدوار استراتيجية
  • 119
مليكة. خ مليكة. خ

❊ الجزائر تتميّز في معرض "اياتياف الجزائر" والمنتدى الإفريقي للمؤسسات النّاشئة 

❊ دفاع مستميت عن القضايا العادلة ونصرة للقضيتين الفلسطينية والصحراوية بمجلس الأمن 

رغم الظرف الدولي الصعب الذي يميّز النظام الدولي بتعقيداته الخطيرة إلا أن الدبلوماسية الجزائرية نجحت في مجابهة صرصرة رياح التغيير التي أتت على الكثير من الدول التي لم تنج من إملاءات قوى عظمى، تسعى لتغيير نهج العلاقات الدولية وفق مصالح براغماتية، غير آبهة بالقيم والركائز التي قام عليها النظام الدولي منذ أمد بعيد.  

تعزّز رصيد الدبلوماسية الجزائرية خلال العام المنقضي، بسلسلة من المكاسب التي صاغت أدوارها الاستراتيجية، خاصة في الدفاع عن الشعوب المضطهدة وضمان حقّها في تقرير المصير مثلما نصّ عليه بيان أول نوفمبر، ونجحت في ترسيخ موقعها كشريك موثوق وصوت مسموع بفضل حضورها الفاعل و تركيزها على حل معضلات الصحراء الغربية، ليبيا، اليمن، مالي ومنطقة الساحل وغيرها من بؤر التوتر.

ولعل ذلك ما يعكس التزام الجزائر بدبلوماسية مبدئية، قائمة على احترام السيادة ودعم قضايا التحرّر والسعي لبناء السلم في محيطها الإقليمي والدولي، عبر تبنّي سياسة خارجية تعكس الهُوية الثّورية والتحرّرية .

كما شهدت الدبلوماسية الجزائرية، حركية نشطة أعادتها بقوة إلى الفضاءات التقليدية الدولية، مستلهمة من مبادئها الثّورية المتجذّرة في بيان أول نوفمبر، الدّاعم لحركات التحرّر واحترام السيادة وعدم الانحياز، حيث نجحت بلادنا في استعادة موقعها الطبيعي كفاعل مؤثّر داخل منظمة دول عدم الانحياز والاتحاد الإفريقي والمحيط المتوسطي، فضلا عن عضويتها المنتهية في مجلس الأمن.

فعلى المستوى القاري، فازت الجزائر بمنصب نائب رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، فضلا عن افتكاكها عضوية مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد، كما عزّزت الجزائر تواجدها في التكتلات الإقليمية والدولية، في توجه يعكس إرادتها لتفعيل علاقات الشراكة المتنوعة في مختلف المجالات، مواكبة للرهانات الدولية والرؤية البراغماتية التي تنتهجها البلاد في إطار النّدية والرؤية المتفتّحة نحو الفضاءات الأخرى رغم بعد المسافات الجغرافية.

وتؤكد هذه الخطوات النّهج الجديد في السياسة الخارجية للجزائر، والتي ترتكز على إحداث التكامل بين الدبلوماسية الرسمية والبرلمانية، خاصة وأن هذه الأخيرة أضحت ركيزة أساسية في تحقيق التقارب بين الشعوب، فضلا عن كونها تعزز الموقع الاستراتيجي للجزائر في الدفاع عن القضايا العادلة والتعاطي مع الملفات السياسية والاقتصادية، وفق رؤية متوازنة تخدم المصالح المشتركة.

وانطلاقا من هذه القناعة فقد كرّست الجزائر حضورها باحتضان الاجتماع الوزاري لآلية دول الجوار الثلاثية بشأن الأزمة الليبية الشهر الماضي، مجددة التزامها بدعم مسار سياسي ليبي ـ ليبي خالص ورفض التدخلات الخارجية وتبنّي مسار الأمم المتحدة، فضلا عن دورها الحيوي داخل مجلس الأمن في حماية مقدرات الشّعب الليبي والدفاع عن حقوقه.

وكثيرا ما أولت الجزائر اهتمامها  لتطورات محيطها الاستراتيجي باعتبارها جزء  منه، من خلال دعم الحلول السياسية والوساطات التي تقودها الأمم المتحدة في نزاع الصحراء الغربية أو عبر التحذير من المخاطر المحدقة بمنطقة الساحل، لاسيما في مالي بعد استيلاء الطغمة  العسكرية على دواليب الحكم بباماكو في إطار تغيير غير دستوري، كما واصلت الجزائر جهودها في مكافحة الإرهاب وتجريم تمويله، وتعزيز قيم السلم والتنمية، ضمن وعي متزايد بتهديدات الجيل الرابع التي تستدعي إشراك كل القوى الوطنية الفاعلة.

"اياتياف" الجزائر .. تميّز ونتائج غير مسبوقة 

موازاة مع ذلك استثمرت الجزائر جهودها في الدبلوماسية الاقتصادية كأحد أعمدة تموقعها الجديد في القارة، حيث احتضنت الطبعة الرابعة لمعرض التجارة البينية الإفريقية وحققت شركاتها عقودا تجاوزت 11.4 مليار دولار، موازاة مع فوزها بالأمانة العامة لمنظمة الدول الإفريقية المنتجة للنّفط.

كما احتضنت الجزائر الطبعة الرابعة للمؤتمر الإفريقي للمؤسسات الناشئة شهر ديسمبر الجاري، حيث شكل  فرصة لبحث آليات جديدة لتمويل روّاد الأعمال المبتكرين، باعتباره ركنا أساسيا للنظام البيئي القاري في هذا المجال، فضلا عن كونه فرصة للحكومات الإفريقية لاعتماد نماذج تمويل مبتكرة وتوسيع صناديق الابتكار وتقديم حوافز جبائية للمستثمرين في مجال الابتكار.

وتبرز العقيدة الجديدة للدبلوماسية الجزائرية جليا في التوجه نحو تعزيز التشبيك الاقتصادي، خاصة داخل القارة الإفريقية، باعتبار أن الاقتصاد هو المفتاح لتحقيق الحضور السياسي والأمني، عبر إعادة بناء العلاقات التجارية وتعزيز الاندماج الاقتصادي مع دول القارة كوسيلة فعّالة لتعزيز نفوذ الجزائر. 

وفي المنطقة الأسيوية حصلت مدينة الجزائر على جائزة الأمم المتحدة "شنغهاي 2025" للتنمية المستدامة، كما انضمت إلى معاهدة الصداقة والتعاون لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، بدعم جميع الدول الأعضاء في المنظمة، في خطوة ستعمل من خلالها على تكريس مبادئها في الدفاع عن قيم السلام وسيادة القانون، والعمل مع دول الرابطة على تعزيز واحترام قواعد القانون الدولي، كما سجلت انجازا آخرا بانضمامها إلى الجمعية البرلمانية الدولية لرابطة دول جنوب شرق آسيا "أيبا" كعضو ملاحظ وحيد.

وتمثل هذه المعاهدة خطوة دبلوماسية جديدة لدعم تواجد الجزائر في الفضاءات الإقليمية الدولية البارزة، كما أنها تشكل منبرا لها للتنسيق مع دول "آسيان" لبناء مستقبل يسوده السلام والازدهار لجميع شعوب العالم، انطلاقا من الاهتمام الكبير الذي توليه لتطبيق القانون الدولي ولتعزيز مبادئه وأيضا بالنّظر إلى التزامها بعلاقات الصداقة والتعاون التي تجمعها بالدول الأعضاء في المنظمة.

أداء باهر خلال عضوية الجزائر في مجلس الأمن 

وخلال توليها منصب غير دائم بمجلس الأمن، نجحت الدبلوماسية الجزائرية خلال عهدتها التي تشارف على نهايتها في استعادة بريقها، من خلال انكبابها على إيصال صوت الدول العربية والإفريقية والدفاع عن القضايا العادلة أبرزها القضيتان الفلسطينية والصحراوية. 

فبتوجيهات من رئيس الجمهورية، بذل الممثل الدائم للجزائر لدى الأمم المتحدة جهودا مكثفة للحصول على قرار يدعو إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار في غزّة، بعد فشل المجلس سابقا في تبنّي قرارات مشابهة بسبب (الفيتو) الأمريكي، كما نجحت الجزائر في إعادة طرح مسألة العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، بما يهدف إلى تنفيذ حل الدولتين الذي تقرّه الشرعية الدولية لتحقيق سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط.

فالجزائر لم تدّخر خلال عهدتها بمجلس الأمن الأممي أو في مختلف المحافل الدولية، أي جهد في الدفاع عن القضية الفلسطينية حيث لم تتوان عن المطالبة بوقف الحرب الوحشية الصهيونية على قطاع غزّة، رغم اصطدامها في كل مرة بحق النقض (الفيتو) الذي لم يحد من عزيمتها وإصرارها في العودة إلى دق باب المجلس حتى يتحمّل مسؤوليته ويقرّ بحماية الشعب الفلسطيني من كافة أشكال العدوان وتمكينه من إقامة دولته المستقلّة.

كما نجحت الجزائر مرارا باعتبارها ممثل المجموعة العربية والإفريقية بمجلس الأمن، في الحصول على التفاف واسع حول جميع مشاريع القرارات التي رفعتها إلى الهيئة الأممية بخصوص فلسطين، والمطالبة بإدخال المساعدات ووقف تهديدات الكيان الصهيوني المتعلقة بحظر نشاط وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" في الأراضي الفلسطينية المحتلّة.

وفي إطار مساعيها الرامية إلى وقف العدوان على غزّة، اتخذت الجزائر قرارا سياديا بالتصويت لصالح مشروع قرار مجلس الأمن بشأن "خطة السلام في غزّة" واحتكمت في ذلك إلى اعتبارات موضوعية تسهم في التخفيف من وطأة المآسي المسلّطة على الشعب الفلسطيني في القطاع، وتضمن التسريع بقيام الدولة الفلسطينية المستقلّة.

من جهة أخرى، استغلت الجزائر كامل صلاحياتها كعضو غير دائم في مجلس الأمن الأممي، وعملت بقوة وحزم للدفاع عن حق الشعب الصحراوي غير القابل للتصرف في تقرير المصير والاستقلال، رغم المحاولات اليائسة التي بذلها نظام المخزن للتلاعب بالوضع القانوني للصحراء الغربية، في حين ظلت الجزائر وفية لمبادئها وأكدت مرارا وتكرارا دعمها الثابت للشعب الصحراوي. 

وتنفيذا لتوجيهات رئيس الجمهورية، وبقيادة وزير الدولة، وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج والشؤون الإفريقية، السيّد أحمد عطاف، ومندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة، السيّد عمار بن جامع، مارست الجزائر عبر دبلوماسيتها نفوذها الكامل على مدى العامين الماضيين، لتسليط الضوء على القضية الصحراوية ومنع تجريدها من جوهرها. وبمبادرة من عدة دول أخرى، نجحت الجزائر في إقرار تعديلات جوهرية على مشروع القرار 2797 الصادر في 31 أكتوبر 2025، والذي جدد ولاية بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية (المينورسو).

وقد أكدت هذه التعديلات مجددا حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، وجعلت النص أكثر توازنا على الرغم من الضغوط المغربية لطي الملف نهائيا، كما تمكنت الجزائر من تحويل مسودة أولية للقرار والتي كانت تؤيد ما يسمى بـ"خطة الحكم الذاتي" المغربية، إلى نص أكثر انسجاما مع القانون الدولي، حيث أكد على شرعية الاستفتاء على حق تقرير المصير وفقا لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وضمن عدم تقويض النص لقرارات مجلس الأمن السابقة التي تشكل الأساس القانوني لحل عادل ودائم.

وبذلك فإن صوت الجزائر اخترق صداه أروقة مجلس الأمن وخارجها، حيث كان أداءها مرتكزا على تكريس الوفاء بالالتزامات وتطبيق الأجندة التي انتخبت من أجلها الجزائر لنيل عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن، والبناء على الرصيد الذي تم تحقيقه طيلة عقود من النشاط الدبلوماسي لنصرة القضايا العادلة.  ولم تكتف الجزائر بالوساطة فقط، بل انتقلت إلى مرحلة المبادرة من خلال تقديم حلول واقعية للأزمات، انطلاقا من إدراكها لضرورة حماية عمقها الاستراتيجي في جوارها الإفريقي، وخاصة منطقة الساحل التي تعاني من هشاشة أمنية وتحديات تنموية معقّدة.

وبرزت الجزائر خلال عهدتها في مجلس الأمن، كطرف مؤثّر وفاعل في مراكز صنع القرار داخل المحفل الأممي، بفضل مقاربتها القائمة على المرافعة عن القضايا العادلة والحرص على ايجاد حلول سلمية للنزاعات والإسهام في رسم معالم نظام دولي يكرّس السلام المستدام في العالم.

فعلى صعيد الشرق الأوسط، أخذت الدبلوماسية الجزائرية على عاتقها زمام المبادرات بالدعوة إلى عقد اجتماعات من أجل الدفع بالحلول السياسية تحت مظلة الأمم المتحدة، متمسكة بمبادئها القائمة على احترام سيادة الدول ورفض التدخلات الأجنبية، حيث نجحت في تمرير العديد من القرارات وصفت بعضها بـ"السابقة" في تاريخ المحفل الدولي.

وفي هذا السياق، عقدت الجزائر 16 اجتماعا منها لقاءات طارئة تصدرها العدوان الصهيوني على قطاع غزّة، إذ رافعت بجرأة عن الشعب الفلسطيني وفضحت بشاعة إبادته على ومرأى ومسمع العالم، وأدانت تهديداته بإغلاق وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، مشددة على ضرورة تثيبت وقف إطلاق النّار في غزة، بما يساهم في إطلاق مسار سياسي تحت رعاية أممية لإيجاد تسوية عادلة ونهائية لهذا الملف الشائك.

وفيما يتعلق بلبنان وسوريا واليمن، طالبت الجزائر بنصرة هذه الدول التي تتعرض لأزمات نتيجة لتداعيات عدوان الاحتلال الصهيوني على فلسطين، والوقوف إلى جانبها أمام اعتدائه المتواصلة علاوة على تنظيم 9 اجتماعات تناولت التحديات الأمنية والاقتصادية التي تؤرق دول القارة. وبهذا الخصوص دعت الجزائر إلى حوار شامل في السودان يضمن انتقالا سياسيا سلسا وينهي نزاعا يعد "من أعنف النّزاعات في قارة إفريقيا"، معربة عن رفضها "المطلق" للتدخلات الخارجية التي أطالت أمد الأزمة في هذا البلد.

كما كان للملف الليبي نصيبه من جهود الدبلوماسية الجزائرية التي تمكنت بفضل حنكتها من انتزاع قرار تاريخي بإعادة استثمار الأصول الليبية المجمدة في المنظمات المالية الدولية، والحفاظ عليها لدعم استقرار الشعب الليبي، فيما واصلت الدفاع باستماتة على القضية الصحراوية في إطار احترام الشرعية الدولية والقرارات الأممية ذات الصلة.

وبمبادرة من الجزائر توّج الاجتماع رفيع المستوى حول مكافحة الإرهاب في إفريقيا الذي ترأسه وزير الدولة، وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج والشؤون الإفريقية،  السيّد أحمد عطاف، بتكليف من رئيس الجمهورية السيّد عبد المجيد تبون، ببيان رئاسي في سابقة تمثل "اعترافا" على أعلى مستوى دولي يكرس دور رئيس الجمهورية، بصفته "نصير الاتحاد الإفريقي للوقاية من الإرهاب". وفي خطوة حاسمة اعتمدت لجنة مكافحة تمويل الإرهاب بمجلس الأمن الدولي، ما يعرف بـ"المبادئ التوجيهية للجزائر" ما شكل إرثا ملموسا لهذه العهدة وإسهاما تاريخيا في تعزيز السلم والأمن الدوليين. 

وحرصا منها على الاطلاع بدورها بكل مسؤولية وتفان، عملت الدبلوماسية الجزائرية على إقحام ملفات أخرى ضمن أجندتها على مستوى مجموعة (A3+) وتتعلق بالأوضاع في جمهورية الكونغو الديمقراطية وكولومبيا مرورا بهايتي وميانمار، داعية إلى ضرورة تقديم الدعم الدولي للتوصل إلى تسوية سياسية لهذه النّزاعات المستعصية. يأتي ذلك في الوقت الذي تلتزم فيه الجزائر بعدم  الانخراط في منطق الاستقطاب الدولي، مع حفاظها على علاقات ودية قائمة على الاحترام المتبادل مع مختلف الأطراف دون أن يؤدي ذلك إلى التبعية أو المساس بسيادتها.