الثقافة عنصر فاعل في الخيارات الاستراتيجية للدولة سنة 2025
صون التراث المادي وغير المادي والسينما بحضور خاص
- 76
دليلة مالك
مثّل عام 2025 محطة مفصلية في مسار الثقافة والفنون بالجزائر، إذ عرف ديناميكية واضحة وحركية متسارعة، خاصة في قطاع السينما الذي تصدر المشهد الثقافي. كما تميّز العام بتحقيق مكاسب معتبرة في مجال صون التراث المادي وغير المادي، إلى جانب تنظيم تظاهرات ثقافية كبرى عكست ثراء الهوية الوطنية وتعدّد روافدها الإفريقية والمتوسطية، مؤكدة حضور الثقافة كعنصر فاعل في المشهد العام والخيارات الاستراتيجية للدولة.
السينما في صدارة المشهد الثقافي
برز قطاع السينما كأبرز عناوين الحصيلة الثقافية لسنة 2025، بعدما تكرّس توجه واضح لإعادة بعث الصناعة السينماتوغرافية على أسس مؤسساتية وقانونية. فمنذ بداية العام، تجلّى الاهتمام الرسمي بهذا القطاع من خلال تنظيم الجلسات الوطنية للسينما، التي وضعت خارطة طريق لتطوير الإنتاج السينمائي، وتحفيز الاستثمار، وتحسين بيئة العمل الإبداعي. كما رافق ذلك تعيين مستشار مكلف بقطاع السينما، واتخاذ قرارات تنظيمية شملت ترسيم مهرجانات، وإعادة بعث أخرى، والتحضير لتظاهرات سينمائية جديدة في الآفاق القريبة.
وعرفت المهرجانات السينمائية خلال 2025 التزامًا ملحوظًا برزنامتها الجديدة، مع تنظيم مكثف أثمر نتائج إيجابية. فقد رسّخ مهرجان إيمدغاسن الدولي بباتنة مكانته في دورته الخامسة، فيما عاد مهرجان الجزائر الدولي للفيلم بحلة جديدة وتنظيم محكم في دورته الثانية عشرة. كما شهد العام ميلاد مهرجان تيميمون الدولي للفيلم القصير، الذي شكّل إضافة نوعية للمشهد الثقافي المحلي، ونجح في فرض نفسه ضمن خريطة المهرجانات الدولية.
وأُعلن عن عودة تظاهرة "بانوراما السينما" إلى مدينة قسنطينة، في خطوة تهدف إلى إحياء الحركية السينمائية بالولاية ومنح هذا الموعد الثقافي نفسًا جديدًا ينسجم مع التوجهات العامة الرامية إلى دعم المبادرات الفنية وترقية الصناعة السينمائية الوطنية. وجاء الإعلان خلال لقاء جمع وزيرة الثقافة مليكة بن دودة بالأسرة الفنية والثقافية في قسنطينة، حيث تم التأكيد على أن إعادة بعث هذه التظاهرة تسعى إلى خلق فضاء دائم لعرض الإنتاجات السينمائية، وتشجيع النقاش الفني، وتعزيز حضور السينما كرافد ثقافي أساسي في المشهد المحلي والوطني.كما تم التشديد على أهمية إشراك الكفاءات المحلية والطاقات الشابة في تنظيم الدورات المقبلة، بما يسمح بتجديد الرؤى وضمان استمرارية التظاهرة، خاصة وأن قسنطينة تتوفر على رصيد ثقافي وبشري يؤهلها لتكون قطبًا فنيًا قادرا على احتضان تظاهرات سينمائية كبرى واستقطاب مختلف الفاعلين في المجال.
وعلى الصعيد التشريعي، صدر عدد معتبر من المراسيم التنفيذية التي نظّمت آليات منح الدعم العمومي، وسير الصندوق الوطني لتطوير الصناعة السينماتوغرافية وتقنياتها، في خطوة اعتُبرت مفصلية لإخراج السينما الجزائرية من منطق الدعم الظرفي إلى منطق الصناعة المهيكلة القائمة على التخطيط والحوكمة والنجاعة الاقتصادية. كما أولت هذه النصوص أهمية خاصة لكتاب السيناريو، وعملت على عصرنة منظومة استغلال وتوزيع الأعمال السينمائية.غير أن هذه الديناميكية لم تُخف بعض النقاط السوداء، على غرار قضية فيلم "سي الحواس"، الذي ظل عالقًا بسبب أزمة مالية حالت دون استكماله، وأثارت جدلًا واسعًا حول حقوق التقنيين والممثلين.
تنظيم جائزة رئيس الجمهورية الأولى للأدب واللغة العربية
وشهد عام 2025 تنظيم جائزة رئيس الجمهورية للأدب واللغة العربية لأول مرة، بعد أن أقرها رئيس الجمهورية في العام السابق، لتعكس الاهتمام الرسمي المتزايد بترقية لغة الضاد وتعزيز مكانتها في المشهد الثقافي الوطني. وقد أتاح هذا الحدث الثقافي الفريد للمبدعين والكتاب والمثقفين فرصة للاحتفاء بالإبداع الأدبي واللغوي، وتشجيع الإنتاجات الأدبية التي تساهم في نشر اللغة العربية والحفاظ على هويتها الثقافية.وأُقيمت الاحتفالية في المركز الدولي للمؤتمرات "عبد اللطيف رحال" بالجزائر العاصمة، حيث تم تكريم رئيس الجمهورية نظير جهوده في دعم اللغة العربية، وتسلم التكريم نيابة عنه الوزير الأول. وقد اعتبر المجلس الأعلى للغة العربية أن هذه الجائزة تمثل خطوة نوعية في سياسات الدولة الثقافية، إذ تؤكد على المكانة المحورية للغة العربية ضمن الاستراتيجيات الوطنية للحفاظ على التراث اللغوي وتعزيزه بين الأجيال.
القفطان الجزائري في اليونسكو
ومن أبرز محطات سنة 2025 في مجال صون التراث، تأكيد تصنيف القفطان ضمن التراث الجزائري غير المادي من طرف منظمة اليونسكو، في خطوة شكّلت مكسبًا ثقافيًا ورمزيًا بالغ الأهمية. وقد جاء هذا الاعتراف الدولي تتويجًا لمسار طويل من العمل التوثيقي والمؤسساتي، عزّز مكانة القفطان كعنصر أصيل ومتجذر في الذاكرة والهوية الجزائريتين، خاصة باعتباره جزءًا لا يتجزأ من العادات والتقاليد المرتبطة بالمناسبات الاجتماعية والاحتفالية، وعلى رأسها الأعراس.ويعود تسجيل القفطان في قائمة التراث غير المادي لليونسكو إلى سنة 2012، ضمن ملف وطني خاص بالطقوس والمهارات الحرفية المرتبطة بالزي الزفافي التلمساني، حيث جرى خلال 2025 تحديث هذا الملف وتأكيده بالإجماع، بما يعكس الاعتراف الدولي المتجدد بقيمته التاريخية والحرفية والجمالية.
كما صادقت اللجنة المختصة على اعتماد ترجمة دقيقة لعنوان الملف باللغتين الإنجليزية والفرنسية، ما ساهم في توضيح هوية القفطان الجزائرية على المستوى العالمي، وتعزيز حضوره في الفضاء الثقافي الدولي.ويمثل هذا الإنجاز أيضا نجاحًا للدبلوماسية الثقافية الجزائرية في الدفاع عن تراثها غير المادي، في ظل تنافس دولي متزايد حول عناصر الزي التقليدي، كما يفتح آفاقًا جديدة لحماية القفطان، وتثمين الحرف التقليدية المرتبطة به، ودعم الحرفيين والمصممين، وربط التراث بالاقتصاد الثقافي والسياحة الثقافية، بما يضمن استدامته ونقله للأجيال القادمة.
الجزائر عاصمة الثقافة الحسانية
وفي سياق التظاهرات الثقافية الكبرى، احتضنت الجزائر العاصمة تظاهرة "الجزائر عاصمة الثقافة الحسانية 2025"، التي شكّلت فضاء للاحتفاء بالتراث الحساني المشترك، وتعزيز الروابط الثقافية بين شعوب غرب الصحراء الإفريقية. وشملت التظاهرة ملتقى دوليًا ناقش قضايا الهوية والتاريخ والتراث المادي والشفوي، إلى جانب ندوات حول السينما والثقافة الحسانية، وأمسيات شعرية وسهرات فنية ومعارض متنوعة. كما امتدت الفعاليات إلى ولاية تندوف في محطة ثانية، خُصصت لدراسة الإشعاع الثقافي الحساني في غرب إفريقيا، مع التركيز على الحركة الصوفية.
المسرح.. قطاع ينتظر الإنقاذ
مقابل الزخم الذي عرفه قطاع السينما خلال سنة 2025، واصل قطاع المسرح معاناته من وضع صعب ومتراجع، حيث أجمع الممارسون والمهتمون على أن الأزمة لم تعد ظرفية بل هيكلية. ويعود هذا التدهور إلى جملة من الأسباب، أبرزها غياب الأعمال المسرحية النوعية القادرة على استقطاب الجمهور واستعادة الثقة في العرض المسرحي، إلى جانب ضعف المستوى الفني والفكري لبعض الإنتاجات نتيجة غياب التكوين المستمر، وتراجع الكتابة المسرحية، وقلة الدعم الموجّه للمشاريع الجادة.
كما ساهمت إشكاليات التسيير والبرمجة في تعميق الأزمة، حيث تشكو العديد من المسارح من غياب رؤية واضحة، وانحصار العروض في مناسبات محدودة، مقابل ضعف في الترويج والتسويق الثقافي. ويُضاف إلى ذلك الغياب شبه التام للمسرح الجزائري عن المحافل والمهرجانات الدولية، ما قلّص فرص الاحتكاك بالتجارب العالمية، وأضعف حضور الجزائر مسرحيًا على الساحة الدولية.
هذا الوضع جعل الفجوة تتسع بين المسرح وبقية الفنون الأدائية، وأعاد إلى الواجهة مطالب الفاعلين بضرورة إطلاق إصلاحات عميقة تشمل آليات الدعم، التكوين، تشجيع النص المسرحي، والانفتاح على الفضاءات الدولية، بهدف إنقاذ هذا الفن العريق وإعادة الاعتبار لدوره الثقافي والتنويري.
غياب مهرجانات موسيقية
كما طبع المشهد الثقافي خلال سنة 2025 استمرار غياب عدد من المهرجانات الموسيقية الكبرى التي شكّلت لعقود موعدًا ثابتًا في الأجندة الثقافية الوطنية، على غرار مهرجانات الموسيقى العربية بجميلة، ديما جاز، وتيمقاد الدولي. وقد مثّل هذا الغياب لسنة أخرى على التوالي خيبة أمل لدى الفنانين والجمهور على حد سواء، خاصة لما تحمله هذه التظاهرات من رمزية تاريخية ودور محوري في الترويج للموسيقى الجزائرية والانفتاح على التجارب العالمية. كما أعاد هذا الغياب طرح تساؤلات حول مكانة الموسيقى ضمن السياسات الثقافية الراهنة، في وقت يشهد فيه قطاع السينما حركية لافتة، ما يبرز حاجة ملحّة إلى مقاربة متوازنة تُعيد الاعتبار لمختلف الفنون وتضمن استمرارية المهرجانات الموسيقية الكبرى. من جهة ثانية، جدير بالذكر أن المهرجان الوطني لـ"الصنعة" في الجزائر العاصمة قد عاد، كما تواصل كل من مهرجان الموسيقى السيمفونية الدولي، ومهرجان موسيقى المالوف الدولي كذلك، مع تذبذبات في مواعيد تنظيمه.