من 26 إلى 28 ديسمبر القادم

ندوة دولية كبرى حول الشاعر سي محند أومحند

ندوة دولية كبرى حول الشاعر سي محند أومحند
  • 93
نوال جاوت نوال جاوت

إحياء للذكرى الأربعين لتأسيس المجلة الأكاديمية العريقة "دراسات ووثائق بربرية" التي تحتل مكانة مرموقة في البحث العلمي المتخصّص في الثقافة واللغة الأمازيغية، تستضيف مدينة أقبو في ولاية بجاية من 26 إلى 28 ديسمبر القادم، حدثا ثقافيا وعلميا غير مسبوق، يتمثل في انعقاد ندوة دولية كبرى حول الشاعر الأمازيغي سي محند أومحند (1849 – 1905)، أحد أبرز رموز الأدب الشفهي الأمازيغي، تحت عنوان "ما الجديد بعد عشرين سنة من مئوية رحيله؟".

تأتي هذه الندوة لتفتح أفقا نقديا جديدا، وتطرح أسئلة متجدّدة حول إرث هذا الشاعر من حيث: المقاربات اللغوية الحديثة في تحليل شعره الأمازيغي. والبعد المقارن بين شعره وتجارب شعرية مقاومية أخرى في شمال إفريقيا والمغرب الكبير. وكذا القراءات الفلسفية والأنثروبولوجية التي تبرز رؤية الشاعر للعالم والوجود، إلى جانب تحوّلات التلقي المعاصر لشعر سي محند بين الشفوي والمكتوب، وبين المحلي والعالمي.

وستتناول الندوة عدّة محاور بحثية تتقاطع بين الأدب، واللغة، والتاريخ، والأنثروبولوجيا، من أبرزها "اللغة الأمازيغية في شعر سي محند أومحند، الخصوصية والتجديد"، و "الشفهي والمكتوب، من الذاكرة الجماعية إلى النص الأدبي" ، وكذا "الفكر الفلسفي والبعد الإنساني في أشعار سي محند" ، و"شعر المقاومة والهوية في السياق الأمازيغي والعالمي"، و "التلقي الحديث والإبداع الفني المستوحى من شعره (الموسيقى، المسرح، السينما)، وأيضا "المكان في شعر سي محند، الجبل والمنفى والرحيل كرموز وجودية".

قراءة علمية ومعاصرة للتراث الأمازيغي

يرمي هذا الموعد الأكاديمي إلى إعادة قراءة التراث الأمازيغي قراءة علمية ومعاصرة، وتحفيز الباحثين الشباب على خوض دراسات معمقة حول الشعر الأمازيغي، وتثمين الذاكرة الثقافية المحلية وربطها بالمؤسسات الأكاديميةو فضلا عن تعزيز التعاون بين الجامعات الجزائرية والدولية في مجال العلوم الإنسانية، وخلق فضاء للحوار بين المثقفين والفنانين والمجتمع المدني.

ومن المتوقع أن تترك هذه الندوة أثرا ثقافيا وعلميا مستداما، يتمثّل في نشر أعمال الندوة في مجلد أكاديمي ضمن سلسلة مجلة دراسات ووثائق بربرية. وتأسيس منتدى علمي دائم في أقبو للبحوث حول الشعر واللغة الأمازيغية. وإطلاق مشاريع توثيق رقمية لشعر سي محند وغيره من الشعراء الأمازيغ. وتوطيد التكامل بين البحث العلمي والمجتمع المحلي عبر مبادرات ثقافية سنوية.

وبعد أكثر من قرن على رحيله، مايزال سي محند أومحند حيا في ذاكرة الجزائر الثقافية؛ لأنّه لم يكن مجرّد شاعرٍ، بل فيلسوفا شعبيا نطق بلسان الحرية والكرامة. ويتجاوز شعره الانتماء القبلي أو اللغوي، ليعبّر عن الإنسان في جوهره، وعن الصراع الأزلي بين الفقر والكرامة، وبين المنفى والانتماء، وبين الأرض والحلم. لذلك فإن هذه الندوة ليست فقط حدثا أكاديميا، بل هي فعل ذاكرة، وحركة تجديد تفتح الباب أمام جيل جديد من الباحثين والمبدعين لاستلهام قيم سي محند: الصدق، والحرية، والكرامة الإنسانية.

للتذكير، نظّمت المجلة بالتعاون مع مؤسّسات أكاديمية جزائرية وفرنسية في 2006، الندوة المئوية لرحيل الشاعر في كل من باريس والجزائر. وصدرت عنها أعمال علمية مهمة، أبرزت مكانة سي محند أومحند في تاريخ الأدب الأمازيغي والإنساني. وقد مكّنت تلك الندوة من إبراز ثراء اللغة الأمازيغية؛ بوصفها لغة شعر وفكر الطابع الفلسفي الإنساني في شعره، والعلاقة الجدلية بين الشفهي والمكتوب في نقل التراث.

من الألم إلى الحكمة

وُلد سي محند أومحند بن محند أوعلي الحداد، في حوالي سنة 1849 في قرية إيلليتن قرب عين الحمام بولاية تيزي وزو. ونشأ في بيئة ريفية أمازيغية محافظة. وتلقّى في صغره تعليماً دينياً في الكتاتيب القرآنية؛ ما مكّنه من الإلمام باللغة العربية إلى جانب لغته الأم الأمازيغية. وعاش أومحند تجربة إنسانية وفكرية فريدة، تداخلَ فيها الاغتراب الداخلي مع البحث عن المعنى والحرية. وتُعدّ أشعاره التي نُقلت في البداية شفهيا، مرآة صادقة للوجدان الأمازيغي في زمن الاستعمار والتحوّلات الاجتماعية العميقة التي شهدتها الجزائر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

وتميّز شعره بلغة أمازيغية عذبة غنية بالصور والمجازات، وبنزعة فلسفية وجودية، جعلت منه شاعرا للمعاناة، والتمرد، والحكمة في آنٍ واحد. لقد عبّر عن قضايا الإنسان؛ عن الفقر، والمنفى، والكرامة، وعن العلاقة المعقّدة بين الحرية والقدر، وبين الذات والمجتمع. وهو في ذلك يشبه كبار الشعراء الصوفيين، الذين حوّلوا الألم إلى معرفة، والغربة إلى أفق روحي. غير أن حياته أخذت مساراً مأساوياً بعد ثورة المقراني سنة 1871؛ إذ فُرضت على أسرته عقوبات قاسية من طرف الاستعمار الفرنسي، فصودرت أملاكها، وتشتّت أفرادها، وتحوّل سي محند إلى شاعر جوّال يعيش في الترحال، والفقر والمنفى. 

وقد شكّلت هذه التجربة الصعبة خلفيةً وجوديةً لشعره، الذي عبّر فيه عن الضياع، والحب، والوطن، والحرية، والموت والقدر. وكان سي محند أومحند شاعرا متصوّفا بالفطرة، لكنّه، أيضا، ناقد للمجتمع، ساخر من النفاق، ساخط على الظلم، متأمل في سرّ الحياة والمصير. قصيدته ليست مجرد نظمٍ موزونٍ بل هي تجربة روحية وفكرية، تعبّر عن الذات الأمازيغية في أعمق مستوياتها.

بين الوجدان والفلسفة

تميّز شعر سي محند بخصائص فنية وفكرية جعلته فريدا في تاريخ الأدب الشفهي الأمازيغي؛ إذ كانت قصائده تُتلى في المجالس الشعبية، وتتناقلها الألسن؛ ما جعلها جزءا من الذاكرة الجماعية. وقد ساهم ذلك في انتشارها على نطاق واسع حتى دون تدوين. استخدم لغة أمازيغية رفيعة، غنية بالمجازات والتشابيه، فعبّر عن المعاني الكبرى بلغة الحياة اليومية، وجعل من الجبل والطريق والمنفى رموزا فلسفية عميقة.

وتناول في شعره أسئلة الإنسان الأساسية؛ الموت، والقدر، والحرية، والإيمان، والاغتراب. وبذلك يُعدّ من أوائل الشعراء الذين منحوا الشعر الأمازيغي بعدا تأمليا وجوديا. ورغم قسوته على المجتمع أحيانا، ظلّ سي محند يدعو إلى الصدق، والكرامة، والإخلاص، والتسامح. كما كان يرى في الكلمة مسؤولية أخلاقية، وفي الشعر وسيلة لتربية الوعي الجمعي. هذه الأشعار وغيرها تختصر فلسفة سي محند في الحياة؛ الزهد في الماديات، والتمسّك بالكرامة، والإيمان بأنّ الإنسان يُقاس بما يفكر لا بما يملك.

ويُعد أومحند مؤسس الشعر الأمازيغي الحديث بالمعنى الإبداعي والفلسفي. حيث نقل الشعر من الوظيفة الغنائية إلى الوظيفة الفكرية. ومنح اللغة الأمازيغية قدرةً تعبيرية عالية عن المعاني الوجودية. وأسس، أيضا، لتقليد شعري، أصبح مرجعا للأجيال اللاحقة من الشعراء والمغنين؛ مثل إيدير، ولونيس آيت منقلات، وأكلي يحياتن. وقد تناولت دراسات أكاديمية كثيرة شعره من زوايا مختلفة؛ كاللغة، والتناص، والرمز، والبنية الإيقاعية، والرؤية الصوفية، والدلالة الاجتماعية. ولاتزال قصائده إلى اليوم تُدرس في الجامعات، وتُغنّى في المناسبات الثقافية بوصفها نصوصا مؤسّسة للهوية الأمازيغية المعاصرة.